ضبط ألفاظ الذكر بالأصابع والسبحة
ذكر الله تعالى يشمل كل أنواع العبادات من صلاة، وصـيام، وحج، وقراءة قرآن، وثناء، ودعاء، وتسبيح، وتحميد، وتمجيد، وغير ذلك من أنواع الطاعات؛ لأنها إنما تقام لذكر الله تعالى، وطاعته، وعبادته وطلبا للثواب من الله فالذكر قربة يُتقربُ بها إلى الله جلَّ جلالهُ. وعلى هذا جائت كلمة الذكر على معنى الصلاة المفروضة في القران الكريم في قول الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ)[1] أي إلى الصلاة ،أما ذكر الله باللسان فهو التلفظ بالألفاظ التي وردت في كتاب الله ومنه تلاوة القران، أو الألفاظ التي وردت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفيها تنزيه، وتقديس، وتوحيد لله، وأفضل ما ذكر المسلم بلسانه تلاوة كتاب الله تعالى وقول لا اله الا الله، والله تعالى رغب في القران المنزل عباده أن يكثروا من ذكره كثيرا فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، ووعد الله تعالى الذاكرين والذاكرات، بالمغفرة، وعظيم الأجر والثواب، فقال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾[2] . وقد قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به قال : (لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ)[3] والذِّكر إما يكون بمكان أو وقت أو حال مقيد. كأذكار الصلاة وما بعدها ، أوالذِّكر الذي يكون بعد الأذان أو ما يقال في الصباح والمساء وما قبل النوم وبعدالإستيقاظ ونحوه ، وكذا كل ذكر قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكان مثل عند دخول الخلاء والخروج من البيت ونحوه ، أو وقت معيَّن كرؤية القمر ، فالأحسن أن يتقيد المرء بالعدد والوقت .وهناك أذكارٌ لم تُقيد بوقت أو زمان فينبغى المدوامة عليها في كل وقت وحين تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الله عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ».[4] وهناك عدة أحاديث لم ياتي فيها ذكر عدد معين كحديث أبي موسـى الأَشْعَرِي رضي الله عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟» فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: «قُل لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ»[5] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللّهِ، وَالْحَمْدُ للّهِ، وَلاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللّهُ، وَاللّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» [6] والإستغفار أيضاً هو من أنواع الذِّكر، وفي كتاب الدعاء للبيهقيّ وصحيح مسلم رحمهما الله تعالى أن رسول الله ﷺ قال: “من أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا عليك بأيها ابتدأت”. وفي هذا الحديث جمع رسول الله ﷺ الأربعة في سياق واحد، لكنه لم يقدم ذكر لا إله إلا الله بل قدم ذكر سبحان الله وليس ذلك للدلالة على أن سبحان الله أفضل مما بعدها، أما أن تكون أفضل من الحمد لله فلذلك قريب محتمل، وكذلك محتمل أن تكون من حيث الثواب في بعض الحالات أفضل من الله أكبر. الرسول ﷺ لم يرد بهذا السياق الذي ورد في هذا الحديث الترتيب على حسب الفضل إنما مراده أن هذه الأربع هي أفضل الكلمات، أي أنها أفضل من غيرها من أنواع الذكر والتمجيد لله تعالى، هذا المراد، أما التفاضل فيما بينها فيعرف من دليل خارج آخر كهذا الحديث الذي فيه أنَّ لا إله إلا الله أحسن الحسنات، فقول الرسول: إنها “أحسن الحسنات” أفهمنا أنها أفضل من جميع أنواع الذكر، ثم هذه الكلمات الأربع منها ما هو فرض في بعض العبادات الله أكبر فرض في تحريمة الصلاة لأنَّ افتتاح الصلاة هو التكبير فنظراً لهذه الحيثية التكبير له فضلٌ خاص حيث إنّه جُعل مفتاحاً للصلاة التي هي من بعد الإيمان بالله أفضل الأعمال. فقوله: “هي- أي لا إله إلا الله- أحسن الحسنات” أي أفضلها. أي أنَّ لا إله إلا الله أفضل ما يتقرب به إلى الله مع خفتها على اللسان وعدم المشقة في النطق بها، ليس هناك في الشرع قاعدة كلية أن ما كان من الأعمال أشق وأكبر كلفة أفضل من غيره. بل من الأعمال ما هو أخفّ وهو أفضل من غيره من سائر الأعمال الصالحة كهذه الكلمة الشريفة لا إله إلا الله، هي خفيفة على اللسان لكنَّ الله تعالى جعلها أفضل الحسنات، فمهما عمل الإنسان من الأعمال الحسنة فإنَّ لا إله إلا الله مقدمة في الفضل عند الله، وذلك أنها الباب إلى الإسلام، الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام لا يدخل في الإسلام إلا بها أو بما يعطي معناها، قال الفقهاء: إذا قال الكافر الذي يريد الدخول في الإسلام: لا خالق إلا الله محمد رسول الله صح إسلامه أي ثبت له الإسلام، وكذلك لو قال: لا ربّ إلا الله محمدٌ رسول الله قالوا: صحّ إسلامه، وكذلك لو قال: لا ربّ إلا الرحمن، أو: لا إله إلا الرحمن، لأن هؤلاء الكلمات كلٌّ بمعنى لا إله إلا الله، لكن أفضل ذلك كله هذه الصيغة لا إله إلا الله . وأما ورد فيه العدد ثلاثاً أو سبعًا أو مائة فالأحسن ضبط العدد كما ورد في الحديث. ويجوز للمسلم أنْ يسبّحَ الله تعالى بأيِّ كيفية وهيئة سواء كان قائماً أو قاعدًا أومضجعًا وسواء ضبط عدد الأذكار بيده اليمنى أو من غير ضبط ولكنَّ التسبيح مع العد بالأصابع أحسن لأمر النبي صلى الله عليه وسلم نساءً أن يُراعينَ بالتكبيروالتقديس والتهليل العقدَ بالأنامل، فقال صلى الله عليه وسلم عن العقد بالأنامل:(فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ، مُسْتَنْطَقَاتٌ )[7]، فالأنامل ضمن ما يشهد للإنسان من أعضاء يوم القيامة ما له وما عليه، قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال:(رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ)، وأما استعمال السُبحة أو العدادات الحديثة فلا مانع به وهذا الأمر له أصل من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على إمرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح بهن، وورد غير ذلك ومما يقوي ذلك ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يستغفر الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة[8]، فعُلم من ذلك أن الصحابي الجليل أبا هريرة رضي الله عنه كان يستعمل هذا الخيط الذي فيه ألفا عقدة لضبط عدد التسبيح، الذي اتخذه وردًا يذكره كل يوم، وهذا هو شأن الصالحين الذين يكثرون من ذكر الله تعالى بأعداد محصورة بالمئات والآلاف يواظبون على ذلك، وكذلك كان شأن أبا مسلم الخولاني، ذكر السيوطي أنه كان لأبي مسلم الخولاني رحمة الله عليه سُبحة فنام ليلة والسُبحة في يده. قال فاستدارت السُبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تُسبح فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور على ذراعه وهي تقول : سبحانك يا دائم الثبات ويا منبت النبات فقال ابو مسلم: هلمي يا أم مُسلم فانظري إلى أعجب الأعاجيب قال : فجاءت أم مُسلم والسُبحةُ تدورُ وتُسَبِح فلما جلست سكنت السبحة!! .ومنهم الإمام الجنيد البغدادي، ذكره ابن خلكان في “وفيات الأعيان” ،والخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد”، قال الحافظ السيوطي في رسالته: “المِنحةُ في السُبحة” ما نصه: “ولم يُنقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عدّ الذكر بالسُبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروهًا” ا.هـ. وأما قول الألباني وابن عبد الوهاب أنها بدعة ومن عادة النصارى فواضح جهلهم بهذا لأن العلماء قاسوا إقرار النبي صلى الله عليه وسلم التسبيح بالنوى والحصى عليها وورد حديث:( نِعْمَ المُذَكِّرُ السُّبْحَةُ)[9] أي تُعينُ العبدَ وتذكرهُ وتضبط العدد وأما قول الوهابية ببطلان الحديث لأنه لم تُعرف السُبحة في زمن النبيّ فمحمولٌ على أنه مما أطلعهُ الله عليه في المستقبل في أمته فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ولم يكن في زمانه المنائر وما كانت تُعرف وهذا مثله، وهذا من دلائل النبوة كما أخبر أنه على رأس كل مائة سنة مجدد ولم يكن التأريخ في زمانه صلى الله عليه وسلم ومن العجب أن أحمد بن تيمية الحراني المتوفى سنة 728هـ أجاز التسبيح بالحصى واستعمال السُبحة مع انحرافه عن أهل السنة والجماعة ومخالفته لهم في كثير من مسائل العقيدة والأحكام، فقد قال في فتاويه ما نصه: “فصل: وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للنساء: “سبحنَّ واعقدنَّ بالأصابع فإنهنَّ مسؤولاتٌ مستنطقات”. وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى وأقرها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به. وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية فهو حسنٌ غير مكروه” ا.هـ.[10] والعجب أن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه الذين تخرجوا على كتب ابن تيمية يعتبرونها من البدع المنكرات التي لا يجوز استعمالها، فهم بذلك وشيخهم ابن تيمية على طرفي نقيض. فخلاصة القول أنَّ تعداد الذكر وضبطه بالأصابع أو بالسبح والآلات جائز لا حرمة فيه وإن كانت الأصابع الأولى. والله أعلم وأحكم.
[1] سورة الجمعه /11
[2] سورة الاحزاب/35
[3] رواه الترمذي
[4] رواه مسلم
[5] رواه البخاري
[6] ابن حبان
[7] رواه ابو داود
[8] رواه ابو نعيم في الحلية وعبد الله بن حنبل في الزوائد
[9] ضعيف رواه الديلمي
[10] [22/506] الفتاوى