الدين النصيحة

 

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. 

نُقل عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الجامعة المفيدة المرشدة للناس حديث من جوامِع كلِمِه المرشدة النافعة المبارَكة قولُه صلى الله عليه وسلم: الدّين النّصيحة، قلنا: لِمَنْ ؟ قال: لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّةِ المسلمين ولعامَّتِهم ، والحديث فيه معنى أنّ الدّين مبنيٌ ومجتمع على النّصيحة، فمنِ اتّصفَ بالنّصيحة فقد أحرَز من فضائل الدين والخير والنفع، ومن حُرِم النصيحةَ فقد فاتَه خيرات ومنافع. 

             

وتفسيرُ النّصيحة لغة هي القيامُ بحقوق المنصوح له مَع المحبّة الصادقةِ للمنصوح له وتكونُ بالأقوال والأعمال ونوايا القلوب، قال الأصمعي: " النّاصحُ الخالِص من الغِلّ، وكلّ شيء خلُص فقد نَصحَ، وقال الخطابيّ: "وأصلُ النّصح في اللّغة الخلوص، يُقال: نصحتُ العسلَ إذا خلّصته من الشّمع". والنّصحُ والنصيحة مِن صفاتِ الأنبيَاء والمرسَلين ومن تبعهم من المؤمنِين والمؤمنات، والغشُّ والخِداع والمَكر والخيانة وفسادُ النوايا من صفات الفجار والمنافقين ومن تشبه بهم، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وهو أنّه أرادَ بأمّته الخيرَ ونصح لهم ودعاهم للإيمان بالله الخالق الذي أبرز الكائنات من العدم ، وكذا جملة من أنبياء الله وصفوا بهذه الصفة الجميلة النصحَ للناس وإرشادهم للخير وتحذيرهم من المنكرات، وصُلحاءُ الناس هم المتّصِفون بالنّصيحة لله ولكتابِه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم.

وهذه الكلمة الجامعة: الدّينُ النَصيحة، ذكرها نبينا عليه السلام الله تعالى أوحى لنبيه بهذا الكلام الطيب المبارك النافع للإهتمام بها والعمل بها، وليرشد العباد إلى أن الدينَّ الذي جاء به صلوات الله وسلامه عليه يأمر بالنصيحة الهادفة الصادقة وأن النصيحة عماد الدين وقوامه، وذلك أنَ الناصح ي يتمنى ويحب لمن ينصح له الصدقَ والإخلاص في نُصحِه، وأعظم ذلكَ وأكبره النصح لله سبحانه وتعالى. ومعنى النصيحة لله أن تؤمنَ به رباً، تؤمن بالله وأنه ربُ كل شيء ومليكه، وخالقه، وأنه مدبرُ الكون، ومشيئته نافذة في عباده، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، أحاطَ علمهُ بخلقه كلِّهم، فلا يخفى عليه شيء من أحوالهم قال الله عز وجل: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ، فهو ربُ كل شيء وخالقه، أرزاق العباد، وآجالهم، حياتهم وموتهم عنده بتقديره ومشيئته، وشاهد ذلك كله في أنفسنا وما حولنا يدلُ على الله وفي الكون كله ما يدلُ على أنَّ الله ربُ كُل شيء وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ، الكون كله دالٌ على وجود الله، ووحدانية الله، وكمال قدرة الله، وأن الخلقَ كلهم فقراء إليه، وهو الغني الحميد عنهم: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ، فالله تعالى هو الغني عن كل ما سواه، ما وحدَ الله وما عبدَهُ من كان في قلبه أن الله تعالى بحاجة لشىء من الخلق لا ما في السموات ولا ما في الأرض ولا للملائكة ولا الأنبياء ولا للعرش ولا للسماء بل الكُلُ بحاجةٍ إلى الله تعالى وهو لا يحتاجُ لأحد، من تذكر ذلكَ واعتقدهُ يمتلئ قلبه إيماناً بالله وعظمتِه وكمال علمه، وكمال قدرته واستغنائه على الخلق وحاجة الخلق إلى الله تعالى، فالسموات لولا أنّ الله مُمسكها لوقعت على الأرض، والعرش الذي فوقها لولا أنّ الله استوى عليه أي حفظه وأمسكه لهوى على الخلق، فلا الله تبارك وتعالى يستقرُ على العرش ولا الله عز وجلّ يَسكنُ السموات، بل السموات والعرش خلقُ لله، مستغنى عنها ولا يحتاج إليها، ومن معاني النصيحة لله أن تؤمن بأسماء الله وصفاته، وتعتقد إعتقاداً جازماً أن لله أسماء وصفات كما يليق بجلاله، لا يشابهه في حقيقتها أي مخلوق،(( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ))، تؤمن بأسماء الله، وتؤمن بصفات الله، إيماناً جازماً، معتقداً أيّها على ما يليقُ بجلال الله وعظمته، ولا تجحد شيئاً منها، ولا تشك في شيء منها، بل تقول كما قال السلف: آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، فأسماؤه وصفاته  كلها تليق به ولا يوصف أحد من الخلق بصفاته ولا بأفاعله ولا بذاته سبحانه وتعالى، فلا تشك في شيء من ذلك، ولا تسلك مسلك من ضلَ عن سواء السبيل، ممن جحدوا وأنكروا أسماء الله وصفاته، وممن صرفوها عن حقيقتها إلى التشبيه أو التعطيل،  فالمؤمن يؤمن  بصفات الله فلا تحريف ولا إنكار ولا جحود، بل يؤمن بهذا إيماناً كاملاً، وأن الله ليس كمثله شيء، وله الأسماء الحسنى والصفات التى تليق به، لا يشابهه أي مخلوق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا. ومن النصيحة لله أن تعبد الله تبارك وتعالى، وأنّ تعلم أن العبادة بكل أنواعها حقٌ له جلَّ جلاله، فكما أنه ربُ كل شيء وخالقه، فهو المستحق أن يُعبَدَ دون سواه، قال الله تعالى:(( يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، فالعبادة وهي الغاية في الخشوع والخضوع حقٌ لربنا سبحانه وتعالى، فالناصحُ لله من يعتقد هذا إعتقاداً جازماً، وأنهُ لا معبودَ بحق إلا الله تعالى،قال الله تعالى:(( ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَـٰطِلُ))، فالناصح لله من قام بقلبه عبادة الله، فعبد الله وحده دون ما سواه، عبده على علم وبصيرة، لا على جهل وتشبيه وتمثيل، فاللهِ الوصفُ الذي ليس كوصفِ غيرِه ولله المثلُ الأعلى سبحانه وتعالى.وكذا يدخل فيها القيام بطاعة الله وإجتناب ما حرم ّ والحبُ في الله والبغض في الله والشكر والإخلاص وحقيقة هذا يرجع للعبد في نُصحهِ نفسه فإنَّ الله تعالى غنيٌ عن نُصح الناصح.

وثانياً: أن ينصحَ المسلم لكتاب الله، ينصح المسلم لكتاب الله، ونصحه لكتاب الله إيمانه بأن هذا القرآن هو كلام الله تبارك وتعالى، المنزل على قلب نبينا بواسطة جبريل، وبلغه محمداً صلى الله عليه وسلم ، وبلغه محمد أصحابه، وتلقاه المسلمون خلفاً عن سلف معتقدين فيه أنه كلام الله ليس كلام البشر وهو عبارة عن الكلام الأزلي الذي ليس بحرف ولا صوت ولا لغة الموصوف به تبارك وتعالى والذي أسمعهُ نبيه موسى عليه السلام قال الله تعالى: (( وكَلمَّ اللهُ موسىَ تَكلِيمَا ))، أي أسمَعَهُ الكلام الذاتي الذي ليس حرفاً ولا صوتاً ولا لغة ولا له مبتدأ ولا منتهى وهو صفة الله الموصوف بها سبحانه وتعالى، وما في المصحفِ من الحروفِ والكلمات عباراتٌ ليفهمَ الخلقُ ما أرادَ ربُنا وما أمر وما نهى. فكتابُ الله  القرءان خاتم الكتب كلها، جمعَ الله فيه محاسن ما مضى من الكتب، قال عز وجلّ:(( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ))، فمن النصيحة لكتاب الله أيضا تلاوتهُ حقَ التلاوة وتتدبرهُ وفهمُ معانيه والتسليم لمتشابهه والأدب معه وتعظيمه والوقوف عند أوامرهِ والبعد عن نواهيهِ قال الله تعالى:(( كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلألْبَـٰبِ))، وتكفل الله بحفظه، فلن يستطيع أحدٌ زيادة أو نقصاناً فيه،قال الله تبارك وتعالى:(( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ)) .

وثالثها أن ينصح المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصيحته لرسول الله إيمانه بهذا النبيّ الكريم، وأنه خاتم أنبياء الله ورسله، لا نبيَ بعده، ولا شريعة بعد شريعته، قال الله تعالى:(( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيّينَ))، يؤمن بأن هذا الرسول  صادق في جميع ما أخبر به سواء مما حصل أو ما سيحصل بعد الموت ويوم القيامة  ومنها طاعة النبي في أمره ونهيه وإعظام سنته والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة أهل بيته والدفاع عن شريعنه ونصرته حيا وميتا ، والاهتداء بهديه، لاعتقاده أن أكمل الهدي هديه، وأكمل الأخلاق أخلاقه، قال الله تعالى: (( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ الآخِرَ))، 

ورابعاً ينصح المسلم أيضاً لأئمة المسلمين، ونصيحته لأئمة المسلمين عامةً كل على قدره، فينصح لأئمة المسلمين، نصيحة تقتضي المحبة، والدعاء لهم، وتبيين الحق لهم وتنبيهم وتذكيرهم  وإعلامهم بما غفلوا عنه وتبليغهم حقوق الناس.

 والمسلم أيضاً ينصح لعامة الأمة، ينصح لعامة المسلمين، لأنه فرد منهم، يحبُ لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، لأنّ نبيه يقول: ((لايؤمنُ أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه))، إن رأيت منهم مقصراً في الواجب سارعت في حثه على القيام به، إن رأيته مرتكباً لمخالفة سارعت في إبعاده عنها، وإن سمعت منه ما يخالف شرع الله تنصحه تأمره بالتوبة عند وقوعه بالمعصية وبالرجوع إلى الإسلام بالشهادتين إن نطق بكفر وردة والعياذ بالله تعالى، وإن رأيته غاشاً في معاملة  أوبيع أو شراء أو حكم بادرت فنصحته، بلا شماتة ولا فرحاً بالنقص، ولكن نصحٌ ومحبة للخير وسعي في ذلك، يسرك كل ما يسر أخاك ويحزنكَ ما يحزنه، فلا تحبُ أن تراهُ على معصية، ولا أن تراهُ مخالفاً للشرع، وإنما تحب أن تراه على أحسن حال كما تحب لنفسك، وتستر على عيوبه، وتيسّر على المعسر، وتفرجُ كربَ المكروبين، وهمّ المهمومين على قدر إستطاعتك، تلك النصيحة للأمة، هكذا أرادَ منّا نبينا صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، أنّ نَتخَلقَ بهذه النصيحة التي تشتملُ على الخير كله. فيا أيّها المُستمع لنصحي أعلم أنّ النَصيحة من أعظم أمور الدين ويجبُ القيام بها على قدر الطاقة والإستطاعة، إلا أنّ لها آدابًا لا بُدَ منها لتقع من المنصوح موقع القبول، فمن ذلك:

1- أنَّ يقصدَ الناصحُ بنصيحته وجهَ الله أي الثواب من الله فقط، إذ بهذا القصد ينال الثواب من الله عزّ وجل والقبول لنصحه يقعُ لأنَّ المخلص كلامهُ يدخل القلوب وله وقعٌ في النفوس وأثر.

2- أن لا يقصدَ بالنصيحة التَشهيرَ بالمنصوحِ، فإنَّ التَشهير يحمل ويبعث على ردِّ النصيحة، بل يكونُ الأمر في الِسر واللطف، قال الحافظ ابن رجب: "كانَ السلف إذا أرادوا نصيحة أحدٍ وعظوه سرًا"، ومن ذلك بيت الشعر:

تَعمدني بنُصحِكَ في انفرادٍ        وجَنبني النَصِيحَةَ في الجمـاعه

فإنَّ النُصحَ بينَ النّاس نوعٌ        منَ التوبيخِ لا أرضىَ استمَاعه

3- ومن الآداب أيضًا في النصيحة أن تكون بلطفٍ وأدبٍ ورفقٍ وشفقة، فإنّ هذا مما يزينُ النصيحة ويزيد في قبولها، قال عليه الصلاة والسلام :((مَا كانَ الرفقُ في شيءٍ إلا زانَهُ )) ،. فانظر إلى من نَصَح بشدة وغلظةٍ كم من باب للخير قد أغلق! وكم من الصدور قد أوغر! وأنظر إلى من تكلم في غلظةٍ وعدم حكمة كم  من الناس نَفرَ وأبعَد!

4- ومن ذلك إختيار الوقت المناسب للنصيحة، لأنَّ المنصوحَ قد لا يكون في كل وقت مستعدًا لقبول النصيحة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآئمة علينا. ولا شكَ أنَّ للقلوب إقبالا وإدبارًا. وعلى كل حال فعلى الناصح أن يجعلَ همه كيفَ يوصل الخير إلى عباد الله فيعملوا به ويناله من الأجر مثلُ أجورهم، لا أن يجعلَ النصيحة كأنها صخرة على كاهله يريد أن يلقيها ويستريح. فنسأل الله أن يجعلنا هادين مهديين صالحين مصلحين متناصحين وبهذا الحديث عاملين .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...