الحسد

الحسد من الكبائر في بعض صوره لا مطلقًا، وهو أن يكرهَ الشخصُ النعمةَ التي أنعم الله بها على المسلم دينية كانت أو دنيوية وتمنّي زوالِها واستثقالها له، وإنما يكون معصيةً إذا لم يكرهه أي إذا لم يستشعر بكراهيةِ ذلك مخالفةً لنفسه، ومحله أيضًا إن عمل بمقتضاه. قال بعضُ السلف «لا يعصي إلا إذا عملَ بمقتضاه" ومثال العمل بمقتضاه أن يذهب للناس ويقول لا تُعاملوه حتى لا يزيد ماله، وأما مجرد تمني زوال النعمةِ الدنيوية عن المسلم دون العمل بمقتضاه فليس حسدًا محرمًا، فالحسد الذي هو حرامٌ هو تمني زوال النعمةِ عن المسلم مع السعي لذلك بالقول أو بالفعل بالبدن أما إذا لم يقترن به ذلك فليس فيه معصية. قال الله تعالى:( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ )،ﱠ أي أستجير بالله من شر الحاسدِ إذا أظهرَ حسده فالحاسدُ لا يؤثر حسدهُ إلا إذا أظهرهُ أما إذا لم يُظهر الحسد فلا يتأذّى به إلا الحاسدُ لاغتمامهِ بنعمة غيره . فالذي يتمنى أن تزول النعمةُ عن شخص مسلم وتتحول إليه لأنّ له مالاً حلالاً كثيرًا مثلاً أو لأنّ له زوجة جميلة أو لأنّ له أولادًا كثيرين مطيعين أو لأن له صفاتٍ جميلة فيكرهُ له هذا ويتمنى أن لو صارت إليه هذه النعمة ثم يسعى في هذا الشيء فقد وقع في الحسد المحرّم، أما إن كان في قلبه تمنّى أن لو زالت هذه النعمة عن هذا المسلم كأن قال في قلبه يا ليت هذه الزوجة فارقتهُ أو ماتت عنه لكن في الظاهر ما عمل شيئًا فهذا ليس معصيةً إلا إذا عمل بالفعل كأن ذهبَ إلى زوجته فقال لها هذا الرجل خبيثٌ حتى تكرهه وتطلب منه الطلاق أو قال لأهلها هذه بنتكم زوجُها لا يعرفُ لها حقها حتى يُحركوها لتنفصلَ عنه ثم يتزوجها هو . وكذلك لو تمنى زوال نعمة دينية غير واجبةٍ عن المسلم من غير العمل بمقتضاه لا يكون حسدًا محرمًا، أما إن تمنى له الوقوع في المعصيةِ أو تمنى له ترك واجب أو تمنى له أن يكون فاسقًا فهذا يكون عاصيًا بتمنيه هذا وإن لم يسعَ. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه: الحسدُ تمنّي الشخص زوالَ النعمةِ عن مُستحق لها أعمُّ من أن يسعى في ذلك أو لا فإن سعى كان باغيًا، وإن لم يسعَ في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهةِ التي نُهيَ المسلم عنها في حق المسلم نُظِرَ فإن كان المانعَ له من ذلك العجزُ بحيثُ لو تمكنَ لفعلَ فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى فإنه يعذرُ لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانيةِ فيكفيهِ في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية رفعه «ثلاثٌ لا يَسْلمُ منها أحدٌ الطيرةُ والظنُّ والحسد» قيل فما المخرجُ منها يا رسول الله؟ قال »إذا تطيّرتَ فلا ترجع، وإذا ظننتَ فلا تُحَقِق، وإذا حسدتَ فلا تبغِ» وعن الحسن البصري قال ما من ادمي إلا وفيه الحسدُ فمن لم يُجاوز ذلك إلى البغي والظلمِ لم يتبعه منه شيء اهـ. وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللهم صلى الله عليه وسلم قال «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عبادَ الله إخوانًا» فيُفهم من هذا الحديث أن من داء القلب الحسد والتباغض، وهذا ضرره كبيرٌ لأنه خلافُ التعاون على البر والتقوى، لأن المسلمين إذا تحاسدوا وتباغضوا يتقاعسون عن البر، والأمر الذي يُعين على الخلاصِ من التباغضِ والتحاسدِ والتدابر هو مخالفةُ النفس فإن مخالفة النفس تُعينُ على ما يُرضي الله وهؤلاء الأولياء ما صاروا أولياءَ إلا بمخالفةِ النفس هواها لأن النفس تحبُّ التكاسلَ عن مشقةِ الطاعات. وأما التدابر فهو أن يوليَ ظهره للمسلم، هذا يُقبِلُ إليه وذاكَ يُدبرُ عنه أو يصرف وجهه إلى الناحية الأخرى للإشعار بأنه يكرهه، وهذا فيه إيذاءٌ للمسلم. وقد قيل إنّ هو أولُ معصيةٍ عُصيَ الله بها في الجنةِ وأولُ معصيةٍ عُصيَ بها في الأرض. قال الله تعالى( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ) فائدة. قال الله تعالى:( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ)، لأن ذلك التفضيل قسمةٌ من الله صادرةٌ عن حكمةٍ وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكلّ مِنْ بَسْطٍ في الرزقِ أو قبض فعلى كل واحد أن يرضى بما قُسِمَ له ولا يحسد أخاه على حظهِ وليتذكر الواحد منا قوله عليه الصلاة والسلام «إذا نظرَ أحدكم إلى مَن هوَ فوقه في المالِ والخلق فلينظر إلى مَن هو دونه فإنه أحرى أن لا يزدريَ نعمة الله عليه « رواه مسلم وغيره.

فائدة: إن مما أثبته الشرعُ الشريف من الأسباب العادية العين فقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العين تضرُّ أي بقضاء الله وقدره. ولا تحصل الإصابة بالعين إلا من نظرةِ حسد أو عجب أما النظرة البريئة فلا يحصل منها الإصابة بالعين. قال بعض العلماء وهو القاضي أبو بكر بن العربي إذا لم يتكلم العائنُ أي الشخصُ الذي يُصيبُ بعينه أي يضرُّ بعينه بما يدلُّ على الإعجابِ بالشخص أو الشئ الذي أعجبه لا يحصل الضرر، إنما يحصل الضرر إذا تكلمَ الشخص العائنُ وقال بعضهم يحصل الضرر لو لم يتكلم فالذي ينكر الإصابة بالعين فقد خالفَ الشريعة لأن الرسول أثبت ذلك فقد روى مسلم أن رسول الله j قال» العينُ حقّ [أي شئٌ ثابتٌ] فلو كان شئٌ سابقَ القدر سبقته العين « معناه لو كان شئٌ يغلبُ قدَرَ الله تعالى لسبقت العينُ القدَر لكن لا شئ يغلبُ قدَرَ الله، معناه العينُ لها تأثيرٌ كبير. ويُفهم من الحديث أنه لا شئ يؤذي أو ينفع إلا بمشيئة الله.

والقرءان أيضًا أثبت الإصابة بالعين قال الله تعالى:(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ)، المعنى يا محمد إنّ الكفار يكادون يُصيبونك أي يضرونكَ بأعينهم لكنّ الله يحفظك، فهم من شدة غيظهم وحسدهم لو تنفّذ لهم لأكلوهُ بأعينهم لكنّ الله حفظه من أن ينضرَّ بأعينهم مهما غضبوا منه ومهما حسدوه. وقد حصل في أيام النبي صلى الله عليه وسلم أنّ اثنين من أصحابهِ خرجا معه في سفرةٍ مع أصحابه فتجردَ أحدهما من ثيابه أي مما سوى العورة ليغتسلَ من ماء المطر المتجمع بين الصخور، فرفيقه لما نظر إلى بياضِ جسمهِ وحُسنِ منظره قال والله ما رأيتُ كاليومَ ولا جلدَ عذراء أي جلد بنتٍ عذراء أي ما رأيتُ مثلَ هذا الجسد في الحلاوةِ والحسن، فصُرعَ أي وقع في الحال على الأرض، فأخبرَ الرسول بذلك فغضب وقال» لأيّ شئ يضرُّ أحدكم أخاهُ، لماذا لم يُبَرّك عليه «أي لماذا لم يقل اللهم بارك فيه ولا تضره أو نحو ذلك. ثم الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له فتعافى وقام كأنه لم يكن به شئ. فهذا الصحابي لو لم ينطق بلسانهِ ما كان أصابه بالعين، لكن الشخص لمّا يُعجبُ بشيء بجمال شخص بجمال عينه أو يدهِ أو نشاطهِ في المشي فيتكلم يخلقُ الله الضرر في الشخص المنظور إليه تلكَ النظرة الخبيثة، والشيطان أيضًا تلك الساعة يلاحظ أن هذا الإنسان ضرب هذا الإنسان بعينهِ فيُصيبُ ذلك الإنسان، فيزداد الضرر في هذا الشخص كما دلَّ على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام( العينُ حقٌّ يَحضُرها الشيطانُ وحسد بني ءادم) رواه البزار. أما لو قال الشخص عند النظر إلى الشيء الذي يُعجبه: اللهم بارك فيه ولا تضره ونحو ذلك، فلا يحصل ضرر للشخص يكون حصَّنَ ذلك الإنسان. وقد روى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( مَنْ وجدَ في نفسهِ أو مالهِ أو ولدهِ ما يُعجبُهُ فليدعُ بالبركةِ فإنّ العينَ حق )، فيُفهمُ من هذا الحديث أيضًا أن الشخص قد يُصيبُ نفسه بالعين إذا نظر إلى نفسهِ نظرةَ العُجبِ والكِبْر وتكلمَ عن نفسه على هذا الوجه. ثم إنّ كثيرًا من إصاباتِ الجِنّ للبشر إنما تكون في المُغتسلِ وفي الخلاء فإذا قال الإنسان قبل أن يضع رجله في الخلاء بسم الله أو قال بسم الله الذي لا إله إلا هو، وعند التجرد للاغتسال قال مثل ذلك يكون حفظ نفسه من إصابة الجن له وهو في هذا المكان. كان في زمن سيدنا على رضي الله عنه امرأةٌ اغتسلت في مكانٍ يُبال فيه من غير أن تتحصنَ فإذا بها تنصرع على الأرض فأُخبرَ سيدنا علي رضي الله عنه فرقاها فقامت وليس فيها شئٌ. وقد روى أبو يعلى في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أكثرُ مَنْ يموتُ من أمتي بعد كتاب الله وقدره بالأنفس" المعنى أن أكثرَ من يمرضُ مرضًا يؤدي إلى الموت في أمتي من العين ومعنى بعد كتاب الله وقدره أي مع كتاب الله وقدره، على حسب قضاء الله وقدره يكون، ومعنى قوله بالأنفس أي بالأعين فيُفهم من ذلك أن كثيرًا من الأمراض المعضلة التي لا ينجحُ فيها علاج الأطباء تكون من العين. ويُحسنُ إذا أراد الشخص أن يُحصنَ ولده أن يقول (أُعيذُكَ بكلماتِ الله التامةِ من كلّ شيطانٍ وهامّة ومن كلّ عينٍ لامّة)، فإن كان له عدة أولاد يحصنهم جملةً فيقول أعيذكم، وإن شاء يحصن كل واحدٍ منهم بمفرده. وقد علَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته الطريقةَ التي يُعالج بها من أصيبَ بالعين فقال:(العينُ حقٌّ فإذا استُغسلتُم فاغسلوا)، المعنى أنه إذا أصيبَ شخصٌ بالعين فوقع عليه الضرر فليغسل الذي أصابه أطراف جسمه أي وجهه ويديه وركبتيه ونحو ذلك كهيأة الذي يتوضأ ثم يؤخذ هذا الماء في إناء ثم يُصبُّ على المريض من خلفهِ ثم يُرمى هذا الإناء مقلوبًا خلف المصاب رأسه إلى الأرض وأسفله إلى فوق فيتعافى المصاب بإذن الله. وعلامةُ العين أن الإنسان قد يكون بحالة الصحّة لا يشكو شيئًا فإذا به يصاب على الفور بسخونة أو وجع العين أو فالج أو حمى أو غير ذلك من الأمراض وقد يَعمى كما حصل للقارئ المشهور الشيخ محمد رفعت المِصري صاحب الصوت الجميل فقد قيل إنه في صغره كان يمشي مع أبيه فأُعجبَ رجلٌ بحسن عينيه فقال هذا كأولاد الملوك، فمن هناك أصيبَ حتى عَمِيَ وبقي عمره أعمى. وقد روى سيدنا علي رضي الله عنه أن الحسن والحُسين أصيبا بالعين فمرضا فاكتأبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصابهما فجاءه جبريلُ فقال له» يا محمد إني أراكَ مُكتئبًا فقال إنّ الحسنَ والحسين مصابانِ فقال له عوِّذهُما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَ أعوذهما فقال له قل: (اللهمَّ ذا السلطانِ العظيم والمَنّ القديم، ذا الرحمةِ الكريم، وليّ الكلمات التامّات والدعوات المستجابات عافِ حسنًا وحسينًا من أنفس الجن وأعينِ الإنس)، فرقاهما رسول الله بما علّمه جبريلُ من هذا التعويذ فقاما يلعبانِ ما بهما شئ. فإن قرأ الشخصُ هذا الدعاء لنفسه يقول عافني وإن كان الذي أصيب بالعين ولده أو زوجته يقول عافِ فلانًا أو فلانة، فقد روي عن سيدنا على أنه قال «عَوّذوا بهؤلاء الكلمات أنفسكم ونساءكم وأولادكم»، وهذا التعويذ الذي علّمه جبريل لرسول الله وإذا حصّن الشخصُ نفسه به ينفعه حتى قبلَ أن يُصاب بالعين. ومعنى المنّ القديم أي الإحسان القديم لأن إحسانَ الله تعالى قديمٌ أزلي، فالله تعالى مُحسنٌ أزلاً وأبدًا ولو لم يكن في الأزل مخلوقٌ يصيبه أثرُ الإحسان بعد وجودهِ هذا على مذهب الماتريدية وإلا فإحسان الله أثر إرادة الإنعام. ومعنى ذا الرحمة الكريم أي يا ربنا الموصوف بالرحمة أنت كريم. ووليّ الكلمات التامات أي مُستحقها وهيَ ألفاظ القرءان والأذكار التي يُمجَّدُ الله بها ويُقَدَّس، والكلمات التامات هي الكلمات التي ما فيها نقص، ومن أنفس الجنّ معناه من الضرر الذي يُصيب الإنسان بسبب الجن، وأعين الإنس أي والضرر الذي يلحقُ بسبب أعين الإنس. فالذي لا يُصدّق بوجود الإصابة بالعين فهو فاسقٌ لكن لا يُكفر إلا أن يكون إنكاره على وجه العناد للشرع فيكفر بذلك. ثم إن من نظر إلى ءاخر نظرة حسدٍ فأصابه بالعين من غير قصد منه وقع في الكراهةِ حيث إنه لم يدعُ له بالبركة، وأما إن كان يعتقد أنه يصيبه بالعين ففعل ذلك فعليه معصية.