طهارة الظاهر والباطن

طهارة الظاهر والباطن

إن الدينَ الذي ارتضاهُ اللهُ لعبادِهِ دين يأمرُ بطهارة القلب والقالب، وشرائعُ الأنبياءِ جميعاً حثت على تطهيرِ النفس من الحِقدِ والحَسد ومن الكفرِ والإلحاد والفجور والفسوق، وتطهيرُ الأبدان من النجاساتِ والأثوابِ من المستقذرات والقلوب من التكبُرَ والرياء على هذا دلت الشريعةُ المحمدية التى تصلحُ لكل الأزمنة والأمكنةِ ولكل شرائحِ المجتمع.

فالإسلامُ دينُ العقيدة الطاهرةِ من الشركِ والإلحاد والخرافات والأهواءِ الفاسدة ومما يُنكرهُ العقل السليم ، والشريعةُ السمحاء الآمرةُ بالعفة وحفظ الأعراضِ والنفوس من تدنيسها بلَوثِ وقذارةِ الرذيلة وتحليِتها بالفضيلة والطهارة التي تُعالج شؤونَ الحياة بما تتطلبه الفطرةُ من سرور وفرحٍ وراحةٍ للقلوب والأبدان، ولباسُ وزينة محاطٌ بسياج من الأدب الرفيع والحشمة يبلغُ بالمتعة كمالها ونقاءها، وبالسرور غايتهُ بعيداً عن الحرامِ والخلاعةِ والظلم والعدوان وإيغالُ الصدور بالحقد والضغينة، ومتَطلبَاتِ الفطرة هذه جائت في دينِ الإسلام مصاحبةٌ ومرتبطة وملازمةٌ للعناية بإصلاح المعتقدِ وسلامةِ الباطنِ قبَلَ الظاهرِ، قال اللهُ تعالى يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ، فتطهيرُ العقيدةِ وتنقيتُها من شوائبِ الشرك والكفر ِوالمعاصي ذُكِرَ مع تطهير الظاهرِ في بدنِ الإنسانِ وثوبهِ وبقعتهِ، فليجمعَ المسلمُ بين النظافتينِ ويحافظَ على الطهارتين قال الله تعالى إنَّ اللهَ يُحِبُ التوَابِينَ ويُحِبُ اُلمتَطَهِرِينَ.

ولأنَّ التوبةَ من الذنوبِ طهارةُ النفس والتطهر من الدنسِ والنَجَسِ وإذا كانَ ذلكَ فإنَّ الأخذَ بالزينةِ والقصد إلى التجمل والعنايةَ بالمظهر والحرصِ على التنظفِ والتطهرِ من أصولِ إصلاحِ النفوسِ التي جاءَ بها دينُناَ العظيم وتميّزَ بها أتبَاعُهُ المتمَسِكونَ بهذه الشريعة، ولقد امتَّنَ اللهُ تعالى على بني آدمَ بلباسِ الزينة ِكما قالَ سُبحانَهُ وتعالى: يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ

خلقَ اللهُ لعبادِهِ الجَمَالينِ اللباس والزينة تُجْمِّلُ ظواهِرِهم، والتقوىَ تُجمِلُ بواطِنَهُم وقلوبهم، وقال في حالِ أهلِ الجنّة وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً، فجَمّلَ وجوهم بالنضرةِ وبواطنهم بالسرور وأبدانهُم بالحرير.

وفي حديث نبينَا عليه الصلاةُ السلام الكثير من الحثِ والحضِ على التجملِ والتنظفِ نذكرُ منها اليسيرَ قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: خمسٌ من الفطرةِ: الإستحدادُ، والخِتَانُ، وقَصُّ الشَارِبِ، ونَتفُ الإبْطِ، وتقليمُ الأظافر، إنها الفطرةُ وسُنَنُ الكِرامْ التى حَثتّ عليها الشرائعُ ودعتْ إليها الرُسُلُ الكِرام وتركُ ذلكَ وإهمَالهُ مُزْرٍ بالجسمِ والشكلِ والمجتمعِ وتشبهٌ بالمبُتَعدينَ عن صحيحِ الفطرةِ وسليمِ العقل وهديِّ الأنبياءِ المرسلين.

فالإسلامُ حريصٌ على الأخذِ بنظافة الحسِ مع نظافةِ النفسِ وصفاءِ القلبِ مع نقاءِ البدَنِ وسلامةِ الصدرِ مع سلامةِ الجسد وإنَّ الشريعةَ لاتأمرُ الأممَ واِلملَلَ أن يعيشوا كما تعيشُ الوحوش في جزائرِ البحارِ، وكهوفِ الجبال، وأكواخِ الأدغَال، كُلهم أو جُلهم يعيشونَ عُراةً أو شبهَ عُراة من غيرِ مراعاةٍ لنظافةِ الباطنِ والظاهرِ وحُسنِ الَمَظهرِ،إنَّ المسلمينَ نماذجٌ رائعةٌ للطُهرِ والجمالِ عندما يُنفذونَ تعاليمَ دينهم في أبدانهم وبيوتِهم وطرقهم ومدنهم.

ومغرورونَ بعض أولائك الذينَ يولّونَ وجوههم َشطْرَ نُظمٍ وتقاليدَ وعاداتٍ يُعجبونَ بها وهي لغيرهم أوهي أصيلةٌ في دينهم إنما لغفلَتِهم استحسَنوها من عندِ الغَيرِ ولو فَقِهوا دينَهُم لعلموا أنَّ مصدرها ما جاءَ بهِ الأنبياءُ أفضلُ بني البَشَرِعليهمُ الصلواتُ والسلامُ ، يَتَشَبَثونَ بها وعندَهُم خيرٌ منها، وفي دينِهم واللهِ ما هوَ أزكىَ وأتقىَ وأجملُ وأرقىَ وأفضلُ،  ومنْ مظاهرِ الطُهرِ والنقَاءِ والجمَالِ والزّينَةِ في توجِيهاتِ الإسلام، وسلوكِ اُلمسلمينَ المتمَسِكِينَ بهْ: فقدْ ثبَتَ عن النبيِّ أنهُ قالَ: الطُهُورُ شَطْرُ الإيِمَان.

والصلاةُ أهمُّ فرائضِ الإسلامِ بعدَ الشهادتينِ شُرِعَ لهاَ التَطَهُرَ منَ الحدَثِ، والتَنَظُفَ منَ القَذَرِ والنَجَاساتِ،  والوضوءُ على الوضوءِ نورٌ على نورٍ، والعِبَاداتُ الطَارِئَةُ  كصلاةِ الجنَازَةِ والخُسوفِ والكُسُوف وسجُودُ التلاوةِ و صلاةُ العيدين وغير ذلك كلها تحتاجُ إلى الطهارةِ. هذهِ الصلواتُ الخمس تنظفُ الباطِنَ وتنهىَ عنِ الفَحْشَاءِ والمُنكَرِ، وضُؤُهَا يُنَظِفُ الظَاهِرَ؛ قال صلىَ اللهُ عليه وسلم: أرَأَيتُمْ لوْ كَانَّ بَابُ أَحَدِكُمْ عَلىَ نَهْرٍ جَارٍ يَغْتَسِلُ منهُ خمسَ مَراتٍ أَيَبقىَ منْ دَرَنِهِ شَيٌء والدَرَنُ الأوساخ، هكذاَ شَبَهَ النبيُ عليه الصلاةُ والسلامُ الصلواتِ الخمْس مزيلةٌ للذنوبِ كما يُزيلُ الماءَ الوَسِخَ عن الجِسم إذا أغتَسَلَ منهُ خمسَ مراتٍ.

وحثَّ أيضاً رسول الله على التَنَظُفَ والإغتسَالَ لحضورِ الجماعةِ يومَ الجمعةِ بقولِهِ عليهِ الصلاةُ والسلام غُسْلُ الجُمعَةِ واجِبٌ علىَ كُلِ مُحْتَلِم، بهذاَ جاءَ الخبرُ عن رسولِ الله ِصلى اللهُ عليهِ وسلم. وأمةُ محمدٍ تُعرَفُ يومَ القيامةِ بينَّ الأُمَمِ بغُرَتِها وتَحْجِيلِهِا من آثارِ الوضوء وذلكَ بتنويرِ المواضع التى تُغسَلُ زيادةٍ على غسلِ اليدينِ والرجلينِ فالغرةُ  هي زيادةٌ في غَسلِ الوجهِ بالوضوءِ عن الموضعِ الواجبِ أي زيادةٌ على حدِ الوجهِ بقليلٍ وهي سُنَةُ نبِينَا  عليه السلام، والتَحْجِيلُ هو زيادةٌ على موضعِ غسلِ اليَدينِ والرجلينِ بقليلٍ، الله يخلق لمن فعل هذه السنة ودامَ عليها نوراً على هذا الموضع يوم القيامة فيعُرَفُ انَّ هذا من أمةِ محمد صلى اللهُ عليه وسلم، لأنّ الغُرةَ والتَحجِيل لم يكنْ في شرعِ من كانَ قبلَ محمدٍ من الأنبياءِ بل كانَ عندَهم وُضوءٌ من غيرِ هذهِ الََمزِيَةِ الزائدةِ الغُرَةِ والتحجيل قالَ عليه الصلاةُ والسلام: إنَّ أمَتيِ يُدْعَونَ يومَ القيامَةِ غُراً مُحَجَليِنَ من أَثَرِ الوضُوءِ

ثم السواكُ مطهرةٌ للفمِ مرضاةٌ للربِ ويسنُ استعمالهُ في تنظيفِ الأسنانِ عشراتُ المراتِ في النّهار والليل!!، وقصُ الشاربِ من التجملِ والتنظفِ بحيثُ لايَعلَقُ بشعرِ الشاربِ دَسَمُ الطعامِ والشرابِ فكانَّ منَ السُنَةِ تقصِيرُهُ بحيثُ تظهرُ حُمرةُ الشَفَةِ العُليا، ووردَ أيضاً من كانَ له شعرٌ فليُكرِمُهُ بالغُسلِ والدهنِ والتَرجِيل والتطييبِ ومن السُنَة ترتيبهُ والإعتناءُ به لا أن يُتَرك بمنظرٍ يعافُهُ الناسُ فقد كانَّ نبينا عليه الصلاةُ والسلام  يَغسِلُ شعرَه ويدهنَهُ بالزيتِ ويتطيبُ بأطيبِ الطيبِ من العطور، وقصُ الأظافرِ أيضاً من السنةِ المطهرةِ، ونَتفُ شعرِ الإبْطِ وحَلْقُ العَانَةِ وهو الشعر النابت حولَ الفَرج، واجتنابُ الروائحِ الكريهة من الثومِ والبَصلِ والدُخان ونحوِه وقد نهى النبيُ صلى اللهُ عليهِ وسلم عن حضورِ الجُمعة والجماعاتِ لمن تفوحُ منهُ رائحةُ البَصلِ والثومِ.

والاغتسالُ المسنونِ كثيرٌ في السُنَةِ المطهَرَةِ غير ما وردَ وجوباً كالغُسلِ منَ الجنابةِ ونحو ذلك، والإنسانُ قد يحتمِلُ من غيرِه ألواناً من الأذى ولكنهُ صعبٌ أنّ يصبرَ على الرائحةِ المنتِنةِ تنبعثُ من فمٍ أو عَرَقٍ أو غيرِهما.  ويتأكدُ ذلكَ في المساجدِ التي َيؤمُّها المسلمونَ للطاعةِ وذكرِ اللهِ والصلاة، ومنَ المُستكرَهُ فتحُ الفَمِ عندَ التثاؤب لما في ذلكَ من قُبحِ المنظرِ وإيذاء الجليس . وفي مقابلِ ذلكَ جاءَ الحرصُ على التطيب بالعطر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يحبُ الطيبَ ويكثرُ من التطيبِ وكان يعبقُ مجلسهُ بالروائحِ الزكية كالمسكِ والبَخورِ وغيرِها.

والتَطهرِ والتنَظفِ مطلوبٌ بالأبدانِ والبيوتِ والمساجدِ ومجامعِ الناسِ؛ زدْ على ذلكَ ما جاءَ في الشريعة من التبرءِ من النجاساتِ بالإستنجاء وعدم تلويثِ البَدنِ والثوب بالنجس على الدوام فلاتصحُ صلاة من بهِ نجسٌ على البدن أو الثوبِ أو المكانِ، أما حُسنُ الملبسِ وجمالِ الِهنَدامِ فمطلوبٌ قدرَ الاستطاعةِ وحسبَ ما يليق بالشخص من ستر العورةِ وحُسنِ المظهر بينَّ النّاس من غيرِ بَطَرٍ ولاتكبُرٍ ولاإستعلاءٍ على غيرِه وكما قالَ عليه الصلاةُ والسلام: لا يَدخُلِ الجّنَةَ منْ كَانَ في قَلبِهِ مثقالُ ذَرةٍ من كِبَرٍ؛ فقالَ رجل: إنَّ الرجُلَ يُحِبُ أن يكونَ ثوبُه حَسناً ونعلُه حَسنةً؛ فقالَ عليه الصلاةُ والسلام: إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُ الَجمَال، الكِبرُ بَطرُ الحَقِ وغَمَطُ النّاس، ومعنىَ إنّ اللهَ جميلٌ أي جميلُ الصفاتِ ولايُحمَلُ على جمالِ الصورةِ والمنظرِ لأنَّ الله تعالى منزهٌ عن الصورةِ والشَكلِ والهيئةِ ولكن يُقالُ جميلُ الصفاتِ، منها وصفهُ تعالى بالوحدانيةِ وأنهُ سبحانه وتعالى كانَ قبلَ كُلِ شَىء وهوَ خَلقَ كلَ شىء ، وقبيحٌ منَّ البعضِ ذكرُ هذا الحديثِ عندَ رؤيةِ المناظرِ الجميلةِ أو النساءِ الجميلاتِ فأنهُ قد يُوهِمُ للمستمعِ أنَّ اللهَ تعالى جميلُ الصورةِ والمظهرِ والله تعالى منزهٌ عن كل صفاتِ الخلق.

ومنَّ الناسِ أجلافُ الفَهمِ يظنونَ أنَّ قصدَ الزينة تصنعٌ وبهرجَةٌ لاتجملَ ضمنَ حدودِ الحشمةِ والأدب، وقد كانَ رسول الله أنظفَ الناس وأطيبَ الناس، وكان لا يفارِقُه السواك، ويكرهُ أنّ يَشمَ منهُ ريحٌ ليست طيبة. فهو عليه الصلاة والسلام كاملٌ في العلم والعمل فبهِ يكونُ الاقتداءُ وهو الحجةُ وبهِ القدوةُ ونِعمَ الأسوةُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بل إنَّ بعضَ الجُهال يحسبونَ فوضىَ اللباس وإهمال الهيئةِ والتبذلَ المستكرهِ ضرباً من العبادةِ أو الحريةِ ، وربمّا ارتدَوا المُرقعات والثياب المهملاتِ وربمّا خَرقوا الثيابَ دِلالةً على التقليدِ الأعمَى كما نرىَ في أيامنا وهمّ على خيرٍ منها قادرونَ ليظهروا جمَالهم بالخُلقِ الحَسن والمعاملة الجيدةِ لابالثيابِ التى لاتألفُها الطِبّاعُ السَليمَةِ وهذا جَهلٌ وخروجٌ عن الجادة. إنه لا يُطيقُ الروائح الكريهة والأقذار المُستنكرة إلا ناقصُ الفطرة أو مغلوب.

ومن دَقَقَ النظر في طبائعِ النفوس وأخلاق البَشرِ رأىَ بينَّ طهارةِ الظاهر وطهارة الباطن وطهارة الجسدِ واللباس وطهارة النفس وكرامتِها ارتباطاً وثيقاً وتلازماً بيّناً واضحاً. وتقوى الله خيرُ لباسٍ على معنى التحلى بها وملازمة التقوى كملازمةِ اللباس للبدن. ومن تقوى الله يكون الحياء الذي ينبتُ الشعور باستقباح ُعري الجسد بشكلٍ لاتقبلهُ الفِطرَةُ والحياءُ منه، ومن لا يَستحي منَ اللهِ ولا يَتقِيهِ فلا يَكترِثُ أنّ يتعرى أو يدعو إلى التعري: إنَّ لمْ تَستَحي فاصنَعْ ما شِئتَ، ومن أجلِ هذا فإنّ سَتر الجسد بما أمرَ بهِ الشرعُ ليسَ مجرد أعرافٌ وتقاليد وتراثيات كما يَزعُمُ الهادِمونَ لأسوارِ العِفة والفضيلة والجاهلونَ بفطرةِ الإنسان، ولكنّها فِطرةَ اللهِ التي فَطَرَ الخلقِ عليها وشرِيعَتَهُ التي أنزَلها وكَرّمَ بني آدمَ بها.

وعنايةَ الإسلامِ بالنظافةِ والتجمُلَ والصحة والتطهرُ جزءٌ من عنايتهِ بمظهرِ المسلمِ وحياته بين المجتمعات، إنّ المطلوب أجسامٌ تجري في عروقِها العافية، وتمتلئُ أبدانُ أصحابِها قوةً وفتوةً وعفةً وطهارة، فالأجسامُ المهزولةُ لا تُطيق حملاً، والأيدي غير المعتَادة على الطهارة بمعناهُ الحقيقي لا تَرفعُ أمة، فما أجملَ التجملَ بآدبِ الشرائعِ النبوية والحرص على طهارةِ النفسِ والظاهر والتجّمُلِ بالعملِ الحَسَنِ والقولِ الحسن. جمّلنَا اللهُ بالتقوى والخُلقِ الحسن ونفعنَا بالنّبين والمرسَلين.