العفوّ من شيم الصالحين

العفوّ من شيم الصالحين

الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله.

إن العفو عن المسيء والتغاضي عن زلاته وهفواته وعثراته من حسن الخلق وصفات عباد الله الصالحين، ومعنى العفو إعراضك عمن ظلمك، وصبرك على من أساء إليك، وتحمّل الأذى من الغير، وترك الإنتقام مع القدرة، وهذا ليس ضعفاً ولا جُبناً بل سماحةً وصفحاً وإحتساباً للأجر عند الله تعالى، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، الله تعالى شرع العدل والقصاص ولكن اللهمدح العفو وجعله من صفات أهل الفضل، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ

الصفح والعفّو أقرب للتقوى وأحسن في العقبى، والحلم على الجاهل مرتبة شريفة وخصلة خير عالية تزيد المرء عِزا وفخراً ومهابةً وقدرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نَقُصتْ صدقةٌ من مال، وما زادَ الله عبدًا بعفوٍ إلا عِزًّا، وما تواضَعَ أحدُ لله إلا رفعهُ.  وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان: ليسَ بفَظٍّ ولا غَليظٍ ولا صَخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفعُ السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح. وفي العفو منافع وفوائد على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة منها أن العفو سبب لمحق الزلات وتكفير السيئات، قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقال الله تعالى:وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فمبادلة الإساة بالإحسان، والعفو مع القدرة، والتأني والحلم وتجاوزك عن صنيع الجاهلين وقبولك المعذرة منهم رغبة في ثواب الله و إبتغاء مرضاته، يورث الصفاء في القلب ويطفىء نار الخصومة والفتن، ويبعدك عن الشحناء والفرقة والبغضاء والعداوة مع إخوانك. وقد أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالعفو في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ، وقال صلى الله عليه وسلم: الراحمونَ يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وفي رواية أخرى "يرحمكم أهل السماء ومعنى الحديث برحمتك أخاك المسلم وعفوك عن زلاته وسترك لعيوبه وارشاده إلى الخير وتعليمه أمور الدين الضرورية التى هي سبب لإنقاذه من النار، يرحمك أهل السماء، أي الملائكة الله يأمرهم بأن يستغفروا للمؤمنين الراحمين لإخوانهم وينفحونهم بنفحات خير ويمدونهم بمدد خير وبركة، ولا يجوز أن يقال عن الله تعالى أهل السماء، فالله مستحيل عليه أن يسكن السماء ولا غيرها من الأماكن المخلوقة، ولو كان الله في السماء لكان مساوياً للملائكة مزاحماً لهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

والعفو خلق النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين الذين صبروا على أذى قومهم وتحملوا في سبيل الله ونصرة الدين، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ، فإن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم لما أمره الله بالجهر بدعوته إلى الله، وتبيين الرسالة عاداهُ قومه أشدَّ العداء وآذوه في نفسه فاتهموهُ بأنه ساحر، وبأنه شاعر، وبأنه كاهن، وبأنه مجنون، وآذوه أشد الأذى، وضع اليهود السُمَّ له في الطعام، وحاولوا إلقاء صخرةٍ كبيرة عليه، وكادَ له المنافقون المكائد، وتآمر عليه قومه ليخرجوه من بلده وغير ذلك من صنوف الكيد والعداوة...، ومع هذا كله أرسل الله إليه الملك الموكل بالجبال قائلاً: إن الله علم بأذى قومك لك، وإن الله أرسلني إليك أستأذنك أن أطبِقَ عليهم الأخشبين (وهما جبلين بمكة)، قال: "لا، أتأنى بهم لعل الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا". ولما اعترض بعض المنافقين على قسمة الغنائم يوم حنين قال صلى الله عليه وسلم: "رحِمَ الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر"، فصلوات الله وسلامه عليه ما أعظم عفوه وصبره، وفي يوم فتح مكة المكرمة، وفي غمرة النصر على أعدائه خطب فيهم خطبة المنتصر، خطبة تمثل أروع موقف من مواقف العفو والصفح وذمِّ الجاهلية وعادتها وفخرها بالآباء، وأخذها للثأر وسفكها للدماء قائلاً لهم يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، يا معشر قريش، ما ترون أني فاعلٌ بكم؟!"، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء وهذا درسٌ آخر من دروس الرحمة والعفو والصفح وترك الإنتقام: اذهبوا فأنتم الطلقاء، سامحهم وهم الظالمون، وعفا عنهم وهم المجرمون، لطالما آذوه باليد واللسان، فهل وقفنا عند هذا الدرس العظيم من المسامحة والعفو والصفح عند المقدرة ؟

فانظر رحمك الله كيف كان تعامله صلوات الله وسلامه عليه مع أعدائه وسيرته المطهرة ملىء بمثل هذا، فتركك الإنتقام والعفو عمن ظلمك وأساء إليك فيه الإتباع لسيد الناس صلوات الله عليه وسلامه وهو صفة عباد الله المحسنين، قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فوصفهم بأنهم يكظمون الغيظ فلا ينفذونه ولو مع القدرة، ومع هذا كاظموا الغيظ يتناسون تلك الإعتداءات ويعفون عنها وتنشرح نفوسهم بالعفو، قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فهم يعفون عمن ظلمهم ويحسنون لمن أساء إليهم، ويتقربون إلى الله بهذه الخصلة الشريفة، ففي عفوك عن إخوانك أيضاً دليل على حسن خُلقِكَ وكرم نفسك وسعة صدرك وشدة تحملك وليس ضعفاً ولا خنوعاً بل قوة وشدة مخالفة للهوى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسَ الشَّديدُ بالصُّرعَةِ، إنَّما الشَّديِدُ الّذي يَملِكُ نَفسَهُ عِنّدَ الغَضْبِ . ولكن هناك أمور لا مُهادَنَةَ فيها ولا تنازل عنها كمسائل العقيدة والرد على المحرفين وأخذ الحق من الغاصبين فتلك أمور يتبغي فيها الإنتقام للحق ورده لأهله عند الإستطاعة، إنمّا العفّو في حق المرء نفسه وإلا حقوق الله والأمر بالمعروف والنهي عن الممنكر ينبغي الحزم فيه على الإستطاعة، إنما تعفو عمن أساء إليكفي شخصك وحقك مع القدرة على الإنتقام، تعفو عمن طعَنَ وقال فيك واتهمك ووصفك بما لايليق بك، فهذا المسىء إليك إنمّا أساءَ إلى نفسه، فعليه هوا الذنب والإثم بما اعتدى وافترى، فقابله أنت بالعفو والإحسان تجِدِ الخير الكثير، فبعَفوِكَ وصبرك عليه يتغير حاله بإذن الله كما أخبر الله في قوله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.

فما أروعَ هذه الإرشاد في الإصلاح وما أنفعَ العمل به، فكم من الناس بسبب العفو والصفح إنقلبوا أحباباً بعد عداوة وبغضاء، ولنا في سير الصالحين العبر  والعظات، فهذا السيد الجليل أحمد الرفاعي رضي الله عنه أحدُ أكابر الأولياء والعلماء كان يمشي مع أصحابه فلقيه رجل من اليهود و كان سمع عن حلمه وأخلاقه فأراد أن يمتحن هذا الشيخ فقال لهذا السيد الجليل المبُجّلِ مخاطباً: يا سيد أنت أفضل أم الكلب !؟ فقال الإمام أحمد الرفاعي: إن نجوت على الصراط فأنا أفضل" فما كانَ من الرجل اليهودي إلا أن أسلمَ قال أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وأسلمَ معه أهله وجمع كبير بسبب عفو هذا الإمام وحسن معاملته، فأنه لما سمِعَ هذا الكلمة التى تهزُ النفوس كان بإمكانه أن ينتَقِمَ ويبطش ويقتّصَ من اليهودي وهوَ منْ هوَ في زمانه مع كثرة الأتباع والجاه والسلطة، ومع ذلك لم يَكفَهِّرَ في وجه بل جاوبه مع عفوٍ وصفح فكان سبباً لدخوله في الإسلام، رأى الرجل أنه لو لم يكن تعاليم الإسلام تحث على مثل هذه المعاملة ما عاملني هكذا هذا الشيخ ، فما أحوجنا في أيامنا لمثل هذا في مجتمعاتنا وتلك أخلاق أقوياء النفوس أهل العزائم، قال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ.