1431عاماً، وتبقى الهجرة النبوية المباركة دروساً وعبر

1431عاماً، وتبقى الهجرة النبوية المباركة دروساً وعبر

 إنَّ في حياةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداثاً حوّلت مجرَى التاريخ وأحدَثت أعظمَ نقلة وأعقبت أقوَى الآثار، تبوَّأت منها الهجرةُ النبويّة المبارَكَة مكاناً عليًّا ومقاماً كريماً شريفاً، حيث كانت حقاً فتحاً مبيناً ونصراً عزيزاً ورِفعة وتمكيناً وظهوراً لهذَا الدّين، وهزيمةً لمن عاداه وحاربه. وفي وقائِع هذه الهجرة المباركة مِن الدّروس والعبَر وفي أحداثِها من الفوائد والمعاني ما لا يكاد يحِيطُ به الحصر ولا يستوعِبه البيان، فمن قصة الهجرة النبوية نتعلم أنَّ الدين و العقيدةَ أغلى من الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمى من الديار، وأنَّ الإيمان أعزُ من الأوطان، وأنَّ الإسلامَ والدعوة إليه خير من القناطير المقنطَرة من الذّهب والفضّة ومن الخيلِ المسوّمة والأنعام والحرث ومن كلِّ متاعِ الحياة الدنيا الزائل، ويتجلّى هذا المعنَى واضحاً في خروجِ النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه، مع صاحبِه بل مع خير من صحب الأنبياء الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه مهاجرَيْن من البلد الأمين المبارَك ومن الحرمِ الآمِن والأرضِ الطيّبة التي وقف نبينا على جبالها مخاطباً لمكة فقال صلى الله عليه وسلم: واللهِ، إنَّك لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى الله، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خَرجتُ ، وفي الهجرة نتعلم ونستفيد كمَال اليقينِ بمعيّة الله أي نُصرته وتأيده تعالى لعبادِه المؤمنين الصَّادقين، ذلك اليقين الرَّاسخ الذي لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، يستبينُ ذلك جليًّا في حالِ هذَين المهاجرَين الكريمَين حين عَظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ببلوغ المشركين بابَ الغارِ الذِي كانَا فيه، وحينَ قال أبو بكر رضي الله عنه: واللهِ يا رسولَ اللهِ، لو أنَّ أحدَهم نَظر إلى موضعِ قدمَيهِ لرآنَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولتَه التي أخذَت بمجامعِ القلوبِ: يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما ، أي إنّ الله تعالى ناصرٌ وعالمٌ ومؤيدٌ لنا،  وأنزَلَ سبحانه مِصداقَ ذلك في كتابه قولَه تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌوأيُّ مَعيّةٍ هذه المعيةَ ؟! إنّها المعيّةَ الخاصّة التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمَعونةِ والنّصر إنّما جعلها الله تعالى لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حقَّ الله عليهم في توحِيده وإفرادِه بالعبادةِ وتركِ الإشراكِ به، ثمَّ بامتثال أوامرِه والإنتهاء عمَّا نهاهم عنه. والمعيةُ تأتى بمعنى العلم كقوله تعالى: وهوَ مَعكم أينَما كُنتم، أي عالمٌ بكم حيثُ كنتم،  الله تعالى لا يَخفىَ عليه شيءٌ عالم بالأماكن كلها وهو موجود بلا مكان، حتى إذا سَكنَ الطلب عنهما قليلاً خرجا من الغار بعد ثلاث ليالٍ متجهينَ إلى المدينة على طريق الساحل فلحقهُما سُراقة بن مالك المدلجي على فرسٍ له فالتفت أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلبُ قد لحقنا فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إنَّ اللهَ معنَا، فدنَا سُراقة منهما حتى إذا سَمِعَ قراءة رسول الله غاصَت يداَ فرسه في الأرض أى غَرقت حتى مَسَّ بطنها الأرض وكانت أرضاً صلبة فنزلَ سُراقة وزجرها فنهضتْ فلما أخرجت يديها صار لأثرهِما عثان ساطع في السماء مثل الدخان قال سُراقة: فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله فناديتهم بالأمان فوقف رسول الله ومن معه فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع وقال للنبي: إنك تمرُ على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك. فقال: لا حاجة لي في ذلك وقال أخفِ عنافرجَع سراقة وجعل لا يلقىَ أحدا من الطلب إلا رَدَهُ وقال: كُفيتُم هذه الجهة فسبحان الله..، رجلٌ ينطلق على فرسه طالباً للنبيّ وصاحبه ليظفرَ بهما وليفخرَ بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينقلب حتى عاد ناصراً معيناً مدافعاً يعرض عليهما الزاد والمتاع وما يُريدان من إبله وغنمه ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها..!! وهكذا كل من كان الله معهُ بنصره فلن يضره أحد وتكون العاقبة له. ويعود سُراقة ويكمل الرسول مسيرته إلى المدينة الطيبة ويصل هناك ليستقبله المسلمون بحفاوة وترحيب وفرح وحب، وليؤسس صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام ويعز الله دينه ويعلي كلمته ولو كره الكافرون ولو كره المشركون.  

إنَّ هذه الهجرةِ المباركة وعبرِها هيَ جديرة بأن تبعثَ فينا اليومَ ما قد بعثَته بالأمسِ مِن روحِ العزَّة، وما هيَّأته من أسبابِ الرِّفعة وبواعثِ السموِّ وعواملِ التَّمكين. والمسلمون بعد ألف وأربعمائة سنة وواحد وثلاثين عاما يقرأون في صفحات الهجرة دروس العز و التضحية لأجل الدين ومرضاة رب العالمين ، ويأخذون من معلمهم النبيّ صلوات الله وسلامه عليه الذي هاجر لا للمال ولا للدنيا ولا للهرب، هاجر لنشر الدين وإعلاء كلمة التوحيد لاإله إلا الله، ليعود بعدها إلى مكة بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل.

أيها المسلمون مع بداية عام جديد حريٌ أن يجدد المسلم التوبة والثبات على طاعة الله وترك ما حرم الله من الأقوال والأفعال وعلى تجنب الفاحش من القول الموقع في سخط الله وعلى ترك الفعل الذي لايحبه الله، ولنأخذ مع بداية العام الجديد الموعظة أن العُمر أعوامٌ وسنَوات وأيام وساعات،  والمؤمنون المتَّقون في كلِّ زمنٍ وحين لا يزدادُون بالأعوام إلاّ خيرًا وبِرًّا وتقوى، ولا تمرّ بهم السّنون إلاّ وهم  للخيرات واغتنامٍ للصّالحات وتركٍ لما نهى الله عنه مسرعون، ففي القرأن العظيم تذكرة للمؤمنين وهي قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ،

فكن أيّها المسلم على حذرٍ من تضييعِ الأعمارِ سُدى ومن تفوِيتِ السنواتِ بالغفلة، يقول الله تبارك وتعالى:أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ، إنَّ في ذهاب عامٍ وحلول آخَر موعِظةٌ وتذكير بأنَّ هذه الدنيَا لا تبقى على حالٍ ولا تصفو لأحد كاذِبة باطِلة الأماني، جديدُها يَبلي وأيّامُها معدودة، والآجال فيها مكتوبة هي بمثابةِ ظلٍّ زائل، أو كأحلامِ النائِم، فاحذر الغفلة فيها، قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ، طوبى لمن لم تَشغَله هذه الدّنيا عن الإستعدادِ للدّار الباقِيَة، وهينئًا لمن لم يغترَّ ببريقِ هذه الدّنيا وزينَتِها وزخارِفها عن الإستعداد ليومِ الرّحيل والآخرة،

فيامن اعطي البَصَر والسمع والوعي والعقل، تزوَّد من الفانية للباقية، ومن الأيام القصار إلى الأيام الطوال، وخذ من حياتك لموتِك، ومن شبابك لهَرَمك، ومن صحّتِك لمرضك، فالفُرَص مواسم.. وقد تفوت، والأجال موقوتة مضروبة محتومة، والإقامة في الدنيا محدودَة، والأيّام فيها قليلة قصيرة معدودة، والله المستعان. والله نسأل الله أن يكون العام الهجري الجديد في أيامه عزٌ ونصرٌ وبركةٌ وأمنٌ وأمان وخير من الله علينا وكل عام وأنتم بخير.