حجاج البيت تزوّدوا

 

شهر ذي القعدة تتحرك فيه أفواج الحَجيج من كل المعمورة قاصدةً البيت العتيق مكة المشرفة لأداء فريضة الحج، والمدينة المنورة  لزيارة خير الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ 

الحجُ عبادة جليلة وفريضة عظيمة الشأن، تشمل أنواعاً من التقرب إلى الله في غاية من التذُلل والخضوع والطاعة والإخلاص والمحبة لله تعالى في أوقات ومناسك معظمة ومواطن محترمة ومنازل مباركة ومسجدين لهم الفضيلة وإليهم تشد الرحال وبالصلاة فيهما زيادة الأجور وبركاتٍ ونفحات وأنس وصفاء يبذلُ المسلم من أجل شهودها الغالي والنفيس، ويتجشّم الأسفار  ويبتعدُ عن الأوطان ويُفارق الأهل والأولاد والإخوان ، وينفقُ الأموال ويسهر الليالي ، كلُ ذلك حباً في الله وطلباً لرضاه وثوابه ومغفرته،  وتأدية لفريضة أوجبها الله على المستطيع ، والله تبارك وتعالى وعدَ الحجيج على الجزاء بواسعِ المغفرة إن تم حجهم وقُبلَ ، فيجازيهم على الطاعة المباركة بالمغفرة والعودِ كيومَ ولدتهم أمهاتهم، وهذا الذي صحت به الأحاديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحجُ المبرور ليسَ لهُ جَزاءٌ إلا الجنّة، وفي الصحيحين أيضاً  أنَّ النبّي صلى الله عليه وسلم قال: من حَجَ فلم يَرفُث ولمْ يَفسُق رَجَعَ كهيئتهِ يومَ ولدتهُ أمهُ، يعني نَقياً من الذنوب كأنه يوم ولادته فيا لعظيم هذا الخير وكثرة كرم الله تعالى على الحجاج المقبولين ، ومن أوضح معالم الحج تلك التلبية شعارُ الحجيج التى ما أن يبدأ الحاجُ بالنُسك إلا ويردِدُها تبعاً وأسوة بالنبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وهي لبيكَ اللهمَّ لبيك، لبيكَ لاشريك لك لبيك، ذكراً يُردد في جنباتِ الكعبة المشرفة وفي المشاعر وفي كلماتِ التلبيةِ معنى عظيم ومدلول دقيق وهو من جوهر الدين وأساسُه وأصوله، وفي التلبية معاني التوحيد لله سبحانه وتعال،ى ونبذِ الإشراك به، ونفي التشبيه والنقص عن الله تبارك وتعالى، لبيكَ يارب يا من لا شريك لكَ لا في الذاتْ، ولا في الصفات، ولا في الأفعال، لبيك يا الله ذاتُك لايشبه شىء، وصفاتك ليست كصفات الخلق أزلية أبدية، تلبية في كل وقت فيها معاني التعظيم لله الذي لايشبهُ شيء ولا يشاركُه شيء في صفاته العظيمة الأزلية الأبدية سبحانه وتعالى، فعلى الحُجّاج أنّ يستحضِروا ما دلّت عليه هذه الكلمات من معانٍ ، وأن يكونَ المسلم على درايةٍ عظيمة بهذا المعنى في حياته كلّها، محافظاً عليه في كلّ حين وآن، لا يعبدُ إلاَّ الله الواحد الذي لاشريك له الصمد الذي لايحتاج لأحد لا للملائكة ولا للبشر ولا للعالم كُلهُ الله ، بل العالم كله بحاجةٍ لله الربّ العظيم الذي كانَ قبل الكُل  ولايحتاج لا للمكان ولا للسماء ولا للعرش سبحانه وتعالى، وفي التلبيةِ مدلولاةٌ أنَّ التوكَّل على الله وأنَّ المؤمن ثقته بالله، وأنَّ الأمرَ كلهُ لله وكله بخلق الله ومشيئة الله، الرزق والسعادة والهداية والتوفيق من الله وبخلق الله "وما بكم من نعمة فمن الله"، الله هو غفارُ الذنوب، لا مانعَ لما أعطىَ، ولا مُعطيَ لما مَنَعْ، وكأنَّ الحَاج في التلبية يقول أنا مُقيمٌ على هذه المعاني وأنا مداوم على طاعة الله ما حَييت.

أيّها الحاجّ المبارك المُقدِم على بلاد مباركةٍ وأعمال طيبة مباركة، أنتَ أكرمَك الله تعالى بحجِّ بيتِه ويسَّر لكَ فاجتهِد في إتمامِ نُسُككَ  قال الله تعالى : وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ، ومن إتمامه الإخلاصِ لله عزّ وجلّ والحِرص على اتِّباع السنة والإقتداءِ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قال: خذوا عني منَاسِكَكم والإتيانِ بشرائطِ الحجّ وواجباته كاملةً، كما ينبغي السؤالُ عن الأحكام الشرعية قبلَ الشروع في العمل ، فكم من حاجٍّ يعبُد الله على جهلٍ لا يتعلّم ولا يسأل، وهذا تهاونٌ بالنّسك فيذهبُ ويعود بغير الذي كان يرجى له ، وتلك ثمرة الجهل والتكاسل عن تعلم مناسك الحج وشروطه ومفسداته، فاتّقوا الله أيها الحجاج ... وأتمّوا الحجّ والعمرةَ لله كما أمرَ الله لا كما تهوىَ الأنفس ولا بالتقليد من غير علمٍ فالحج طاعة لها أركانها وشروطها، ولا يكفى نية الحج فقط من غير تعلم الأحكام وتطبيقها.

ومن إتمام النسُك البُعدُ عن الجِدالُ والرفَث (وهو النكاح ومقدماته) والفسوق والتكِبر على عبادِ الله، وهذا مذكورٌ في القرآن والحديث لحصول القبول والغُفران، قال الله تعالى: ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يأُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ، فاحرص أيّها الحاج على أداءِ النُسك صحيحاً، واعقد توبةً صادقةً سائلاً الله أن يعفو ويغفر ويتقبل ويتكرم، وقل اللهمَّ أنيّ أُبَرىءُ نفسي من كلِ مُخالفة شرعية أو معصية أو رِدة ( كسَبِ الله وكلماتِ الكفر عياذاً بالله منها)، وتبّ إلى الله وأكثر من قولِ لآ إله إلاّ الله محمدٌ رسولُ الله ، نادماً تائباً مُتبرئاً مما يخالفُ الشهادتين عازماً على الثبات على الطاعة ، ثمَّ أحرِمْ بالحَجَ بنيةٍ صادقة، وتجنب محرمات الإحرام ثم طفْ بالبيت طاهراً سبع أشواط ساتراً لعورتك متخشعاً لربك، وقف بعرفة داعياً ذاكراً خاشعاً باكياً نادماً عاقداً توبة كاملة ، واسعَ كسعيِ  هاجر أم إسماعيل  عليها السلام سبعاً مبتدأ بالصفا منتهي بالمروة، ثم قصِر شعركَ أو إحلقه، وانحر نُسككَ، وارمى الحصى تعبداً كفعل نبي الله إبراهيم عليه السلام ، ولا تنسَ التضلعَ والإكثار من ماء زمزم المبارك، إشرب وادعوا الله بعد شربها لورود الحديث: زمزمُ لما شُربَ لها، وأكثر من الصلاة ومن الدعاء ومن الإستغفار ومن الصدقة، واحرص على الزيارة المباركة لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عندَ القبر مستحضرًا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حيٌ في قبره يَسمعُ سَلامَ المسلمين عليه مهما كثروا، وعشْ أوقات الأنس في ذلك الموقف المبارك أمام حُجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسأل الله الشفاعة ولا تلتفت للمُخالفين المانعين لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، فزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم سُنَةٌ بالإجماع للمقيمينَ بالمدينة ولأهل الآفاق القاصدين بسفرهم زيارة قبره الشريف، وهي من القُرَب العظيمة.

عليك أخي المسلم أنّ تعقد في قلبك النية على زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ويُستحب لك أن تنوي مع زيارته صلى الله عليه وسلم التقرُّب إلى الله تعالى بالمسافرة إلى مسجده والصلاة فيه، روى الحافظ الطبراني والحافظ سعيد بن السّكَن في كتابه السُّنن الصّحاح وصحّحه من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جاءني زائراً لا يهُمُّه إلا زيارتي كانَ حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً، وروى الدارقُطني والبزّار بإسنادهما عن ابنِ عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من زارَ قبري وجبت له شفاعتي"، صححّه الحافظ تقي الدين السبكي ووافقه الحافظ السيوطي، ومشروعية زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم محل إجماعٍ والذي نقله القاضي عياض اليَحْصِبي المالكي عالم المغرب في زمانه حيث قال في كتابه "الشفا بتعريفِ حقوق المصطفى" (ج2/83):"وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم سُنّة من سُنن المسلمين مُجمعٌ عليها مُرغّبٌ فيها، وذكرَ إبن قدامة المقدسي في كتابه "المغني" (ج3/599): "ويُستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روى الدارقطني عن ابنِ عُمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي، وحديث: من زارَ قبري وجَبتْ لهُ شفاعتي أخرجه الدارقطني، وتكون الزيارة المشرفة بعد صلاة ركعتي تحية المسجد وتحصل بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره الشريف. وكذا السلام على صاحبيه وضجيعيه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.       

أيها الحُجاجُ في رحلتكم تربيةُ النّفوس على معانٍ من الخير كثيرة ومكارم الأخلاق العاليه، كالصبر والتحمّل والعَفو والصّفح والنفَقة والبذل والإحسان وحفظ اللسان والبصر والجوارح من المعاصي، واحرصوا على تعليمِ الجاهل وإعانة الضعيف، والدعوة إلى الخير ونفع المسلمين لا سيما أهل الحاجات والمسنين، وكونوا على ذكر دائم أن رحلتكم لأجل طاعة الله، فلا يغفلنَّ الحاج أن يكون الإخلاص لوجه الله حاضراً في نفسه عند أعمال البر والخير وعلى ذُكرٍ دائمٍ أنَّ ما يفعله يُريد به ثواب الله فقط ، وفي أعمال الحج تهذيبُ النّفوس وتزكيتُها وترويضُها على الفضائِل وتطهيرها من النقائص ، ففي الحجّ تعلمُ أنّ ما كنتَ تراهُ ضروريًّا من ترَف الدّنيا والتنعم أنّه ليس بضروريّ  يمكن أن تعيش بدونه، وأنه يُمكِن الإستغناءُ عنه أو أقل منه، وأنّ التفاخرَ بين الناس والتعاليَ بعضهم على بعض هي مظاهرُ زائفةٌ لا قيمة لها، لأنّك اليومَ ترى الناسَ سواسية أشبه ما سيكونونَ عليه يومَ البعث من القبور ، فتقودكَ هذه المواقف والتأمّلات إلى أن تغير حالك وإلى تحسين نفسك وإلى شحذِ همَّتكَ للخير، وتطفىء هذه المواقف شَغَفَ حب الدنيا من النفوس والتكالب عليها والتعلق بها ، فتتعاملَ مع الدنيا بمقدار ما تستحقّه دون مبالغةٍ أو زيادة أو حرص أوشح ، وهناك في الحج ترى إجتماع الناس من شتى البلاد والألوان فتذكر يومَ الحشر والقيامة حيث يقوم الناس من قبورهم ليس معهم شىء إلا زادَ التقوى ...، فتزودوا من التقوى فهي خير الزّاد...، ولا تغفلوا ولا تلتهوا بزينة الدنيا ولا تتنافسوا عليها،  بل تنافسوا وتسابقوا للخيرات فأنتم في سوق الخير وفي بلد الله الحرام و في جوار سيد الناس  عليه الصلاة والسلام ، اتركوا الكلام الذي لاخير فيه واجعلوا الصبرَ عدتكم فسفر الحج ليس سفر نُزهة ولا سفر مضيعة للوقت، بل سفرٌ مملوء بالهمم العاليه لفعل الخيرات، وإشغال النفس والوقت بالخير والتقرب الى الله بالعبادات ، جَعلَ الله حَجَكم مقبولاً وسَعيكم مشكوراً وذنبكم مفغوراً وردَّكم الله سالمين غَانمين مقبولين مأجورين ، وأنيّ سائلاً من قصدهُ الحَجَ هذا العام أن يدعوا لي بخيرٍ ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يُبلغ سلامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

واللهُ أعلمُ وأحكم.