الأهلة والتقويم الهجري

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

الله تبارك وتعالى دبر الزمان وجعل الأوقات لعباده مقسمة ما بين ليل ونهار، ليعلم الناس المواقيت والشهور، ولولا ذلك ما كان يُعرفُ وقت الصلاة ولا متى يصوم المسلم ولا متى يفطر، وما كانت تعرف مدة الإستئجار ولا تعرف قاعدة الأحكام كالطلاق وكفارة اليمين وغير ذلك. قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا

والشهور التى يُعَدُ بها التاريخ وتدور على مدار السنين وهي إثنا عشر كما قال الله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ  ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ  وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وتسمى هذه الشهور القمرية لأن دخول الشهر وخروجه متعلقٌ بالقمر ورؤية الهلال علامة بدء الشهر فيها.

قال الله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، فجعل الله تعالى منازل للقمر ليتمَّ بحركته وسيره دوران الشهور وليعرف به الأوقات من أشهر الحج ورمضان وبداية العام ونهايته وإمضاء الأحكام الشرعية المتعلقة بالشهور والأيام، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ، والأهلة جمع هلال وهو القمر عند ظهوره أول الشهر يبدو دقيقاً قال بعضهم والهلال مثل قلامة الظفر أي يظهر دقيقاً وسمي هلال من الرؤية كما قال الجوهري: أستهل بمعنى تبين وقيل للقمرعند ظهوره هلال، أ ه. ولأنَّ الناس كانوا إذا رأو القمر الهلال يرفعون أصواتهم بالأخبار عنه ومنه إستهل الصبي إذا صرخ عند الوالدة، واستهل وجهه فرحاً إذا ظهر فيه السرور، والشهر هو مجموع الأيام التى يدور بها القمر بمنازله وهو عدد معروف من الأيام سمي بذلك  لشهرته لأن الناس يشهدون دخوله وخروجه ولا يكون الشهر القمري إلا تسع وعشرين أو ثلاثين لا أكثر.

والعرب قديمًا كانت تحسب أيامها وشهورها بالقمر وبقي ذلك حتى بعد بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم رؤية القمر هي العلامة الدالة على دخول الشهر وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته فإنّ غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما. ومع وجود الفلكين العرب وأهل الحساب جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرؤية للقمرهي القاعدة في دخول الشهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين رواه البخاري ومسلم.

قال القاضي عياض في شرح الحديث: وصفهُ أيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأمية وأنهم لايحسبونَ ولا يكتبونَ إذا كانوا لا يجهلون الثلاثين ولا التسع والعشرين ولم ينفي عنهم  معرفة مثل هذا الحساب وإنمّا وصفهم بذلك طرحاً للإعتداد بالمنازل وطرق الحساب اهـ

أي إننا لا نعتمدُ الحساب لدخول الأشهر إلا بالرؤيا. وأغلب المسلمين اليوم لايعرفون حسابات الفلكين ولا يحسنونها تماماً ، كما كان الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالعرب كانوا يعرفون بالنجوم والفلك كما يعرف أحدنا اليوم طرق مدينته ومع ذلك كله قيدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ دخول الشهر بالرؤية والمشاهدة والعيانية. روى مالك وأبو داوود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإنّ غمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين، فوضحَ أنَّ الشهر ثلاثين ما لم يُرى الهلال في التاسع والعشرين منه، و من قال أنَّ العبرة بغير الرؤيا فقد ردَّ ما أمرَ به النبيّ صلى الله عليه وسلم وما شرَعُهُ لأمتهِ حتى يوم القيامة، ولقد شدَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ التشديد على مراعاة ترائى الهلال حتى إنه عندما قال بعض التابعين عن الهلال هو ابن ليلتين وقال بعضهم ابن ثلاث سألهم ابن عباس أيُ ليلة رأيتوه فقالوا ليلة كذا وكذا فقال إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ اللهَ مَدّه للرؤية (أي أطال مدته إلى الرؤية) فهو ليلة رأيتموه، وهذا الكلام من النبي صلى عليه وسلم كافٍ في هدم كل ما يقوله البعض في أيامنا من أنَّ العلم تطور ولزم الأخذ بالحساب والفلك فليس لأحد كلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والصحابة الكرام عملوا بهذا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى البيهقي عن سفيان بن سلمة  قال أتانا  كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بخانقين (مدينة ناحية العراق) أنَّ الأهلة بعضها أكبر من بعض فإن رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بلأمس اهـ

فهذا عمر رضي الله عنه لم يكتف بعدم الإعتماد على الحساب بل إنّه أمرَ من رأى الهلال بعيني رأسه نهاراً أنّ لايعتمد على ذلك لأنَّ هذا ليس هو الرؤية التى أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها، وقول عمر أنّ الأهلةَ بعضها أكبر من بعض صريحٌ في مخالفة من قال يعمل بالحساب وبأنَّ ما قالوه من الإعتماد على الحساب فاسد إلا إن كان من ينادي اليوم بالعمل بالحساب لدخول رمضان وغيره يدعّي أنه أفهمَ للأحاديث النبوية من عمر بن الخطاب ومن كان معه !!!  وعلى الإعتماد على الأهلة درج المسلمون واعتمدوا في الأحكام الشرعية في كل بلاد الدنيا وبذلك أفتى فقهاء الأمة منهم ابن عابدين الحنفي قال في كتاب حاشية الدر المختار وهو من أشهر كتب السادة الحنفية: لاعبرة في قول الموقتين أي في وجوب الصوم على الناس، بل في المعراج لا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجّم أن يعملَ بحساب نفسه،أه . وقال في موضع آخر من الكتاب "صرحت أئمة المذاهب الأربعة بأنَّ الصحيح أن لاعبرة برؤية الهلال نهاراً وأنما المعتبر رؤيته ليلاً وأنه لاعبرة بقول المنجمين". فإن قال قائل أنَّ في تعين دخل الشهر وحدة للمسلين بأن يصوموا في يوم واحد، فيقال الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال للناس عينوا يوماً لتصوموا سوية ، بل قال " الشهرُ تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه " وكان بإمكانه صلى الله وسلم أن يُحدِدَ بطريق أهل الحساب ويوحد الصوم كما وحدَّ الوقوف بعرفة في التاسع من ذي الحجة ولكن سنة الدين أن يبقى دخول الشهر برؤية الهلال وهي الطريقة السهلة التي يستطيع أهل البادية وأهل الحضر وغيرهم معرفة أيامهم وأوقات عبادتهم. فلسنا ضد تطور العلوم الكونية ولا ضد توحيد الصف شرط أن لايكون على حساب تحريف الأحاديث النبوية والعبث بالنصوص الشرعية ولسنا ممن يعاكس فعل المسلمين سلفهم وخلفهم في مشارق الأرض ومغاربها على مرور السنين.

التقويم الهجري

التأريخ الهجري تقويم معتمد على الشهور القمرية أيضاً وقد كان بدأ التأريخ في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: ما عدّوا من مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدّوا إلا من مَقدَمِهِ المدينة، وقد كانت هجرتـه صلى الله عليه وسلم  من الأول من مُحرّم فاعتبر المسلمون محرم الشهر الأول في التقويم الهجري، ثم بعدَ مُحرم شهر صفر وبعدهُ ربيع الأول وهو الشهرُ الذي ولِدَ فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى ثم جمادى الآخرة ثم رجب وشعبان ورمضان وهو الشهر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله وفيه ليلة القدر ثم شهر شوال والأول منه عيد الفطر ثم بعده شهر ذو القعدة وذو الحجة والأشهر الثلاث الأخيرة هي أشهر الحج أي لايصحُ الدخول في الحج قبل دخول شهر شوال.

الأشهر الحُرمْ

قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ والأربعة الحُرُمْ هي شهر ذوالقعدة وذو الحجة والمُحرَمْ ورجَب. وقد كانَ حُرِمَ على المسلمين أن يبدأو الكفار بالقتال ثم نَسخ الله هذا الحكم عنهم وكذلك الديّة ُ تُغَلّظ إن كانَ القتل خطأ في الأشهر الحرم، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ  قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل، ومعنى الآية كما أجمعَ المفسرونَّ أنكم يا كفارَ قريش تستعظمونَ علينا القتال في الشهر الحرام ما تفعلونه أنتم من الصَدّ عن سبيل الله لمن أرادَ الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه أكبر والفتنة أكبر من القتل، الفتنة هنا الكفر أي كفركم بالله أكبر من أن يقاتلكم المسلمون في الشهر الحرام. والحذر من تفسير الآية بما يخالف القرآن والحديث كما يحملها الكثير بغير علم بأن من يفتن بين مسلمين ذنبه أشدُ من قتل النفس!! لأنَّ قتل النفس أشد الذنوب بعد الكفر بالله تعالى، فالمعني بكلمة الفتنة بالآية هنا الكفر بالله والشرك اكبر من القتال في الشهر الحرام فليعلم وليتنبه لذلك،

 أخي القارىء راقب الأهلة إن استطعت أو أخذ بقول ثقة رأى الهلال وكن على طريق السلف الصالح والعلماء وجمهور الأمة وأيها المسلمون تعرفوا على تاريخكم الهجري واهتموا به، وتمسكوا به؛ فإنه تاريخ مرتبط بسنة نبينا، ووضع من أجل أمور مهمة، فبالأشهر القمرية تربط أحوال الزكاة وأوانُ إخرجها، وآجال الديون والرهان، وبه تحسب عدة الطلاق ومُدَد الإحداد والإيلاء وغير ذلك من الأحكام الفقهية؛ والله تعالى قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، والحكمة في ذلك أنَّ الشهر القمري ظاهرٌ للنّاس كافة ومعلوم ومشاهد وقت دخوله ووقت خروجه، يعرفهُ ويُشاهِدُهُ المُتعلم والأميّ، والذي في المدينة بين الناس وكذا الذي في البادية مع ماشيته ولوحده، والذي في قلب الصحراء ومن ركب البحر ونحو ذلك، وهذا من رحمة الله وتيسيره لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ، وقال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فاليُسر بمراقبة الأهلة وطلوعها لا بالدخول ببرامج حسابية لا يعقلها إلا أهل الخبرة والدراسات العليا، وما يطبع في أيامنا من التقويم المسمى بالروزنامة والإمساكية ما هو إلا على التقدير والإحتمال والتقريب وإلا فالعبرة بالرؤية أو إخبار الثقة، الله نسأل أن يجعلنا من المتمسكين بما كان عليه جمهور الأمة والسواد الأعظم من المسلمين بمداومة مراقبة ألأهلة ليس عند رمضان فحسب بل في كل شهر وعلى مر السنين.