من معاصي البدن الكبائر الخروج عن طاعة إمام المسلمين الخليفة قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً[1] جَاهِلِيَّةً)،رواه مسلم وفيه ايضا أن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جاء إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ ، زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ : اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً ، فَقَالَ : إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) رواه مسلم. وفي صحيح ابن حبان عن عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ:(سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ[2] ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةِ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْتَكِضُ)، وقد صَحَّ حديثُ أنه صلى الله عليه وسلم قال للزبير رضي الله عنه (إِنَّك لَتُقاتلُ عليًّا وأنتَ ظَالمٌ له)، فلما حضر الفريقان في البصرة نادى عليٌّ الزُبيرَ فأخبره بالحديث فقال الزبير نَسِيتُ، فذهب منصرفاً لأنَّ الله كتب له السعادة والمنزلة العالية فاقتضى ذلك أن لا يموت وهو متلبس بمعصية الخروج على الامام عليّ رضي الله عنه، وكذلك طلحة بن عبيد الله المبشر بالجنة ما قُتِلَ إلا وقد انصرف من الثبوت في المعسكر المضاد لعلي رضي الله وعن الجميع، وذلك بعد أن ذكّرَه سيدنا علي رضي الله عنه بحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله له منذ مدة كما في حديث البراء بن عازب قال : أقبلنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حجتِه التي حجَّ فنزل في بعضِ الطريقِ فأمر الصلاةَ جامعةً فأخذ بيدِ عليٍّ رضي الله عنه فقال ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم قالوا بلى قال ألستُ أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسِه قالوا بلى قال فهذا وليُّ من أنا مولاه اللَّهمَّ والِ من والاهُ اللهمَّ عادِ من عاداهُ)،رواه احمد في المسند. فهذان الصحابيان الجليلان لا شك أنهما من الصّدَيقِين المقرَّبين ومع ذلك نفَذَ فيهما القَدرُ بحضورهما إلى هذا المعسكر المضاد لعلي. وقد روى أن شخصًا قال لعلي رضي الله عنه أتظنُّ أَنَّا نَظُنّ أنَّ طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال علي: ليسَ الحَق يُعرَفُ بالرّجال ولكنَّ الرّجالَ يُعرفُون بالحَقّ اهـ أي ليس الحُجّةُ بالأشخاص وإنما الحجة بالشّرع الذي هو الحق الذي أنزله الله لِيُرجَع إليه ولِيُعرَفَ به الحقُّ من الباطل.[3] ومن الدليل على حرمة الخروج عن طاعة الإمام حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( مَنْ كَرِه مِنْ أَمِيره شَيئًا فَلْيَصْبِر عليه فإنّه ليسَ أحدٌ منَ الناسِ يَخرُج منَ السُلطان شِبْرًا فماتَ علَيه إلا ماتَ مِيْتةً جَاهِلية)،[4] أي كأنّه ماتَ مِيتَةً جاهليةً، شُبّهَ بالجاهلين في ميتته لعُظْم ذنْبِه.


 


[1] حزب التحرير يزعم أنه يجوز عزل خليفة المسلمين بالفسق

ومن جملة ضلالهم قولهم إن مجلس الشورى له حق أن يعزل الخليفة بسبب أو بدون سبب، وقد نشر ذلك في منشور لهم وزع في دمشق منذ أكثر من عشرين سنة، وهو مما ألفه بعض أتباع تقي الدين النبهاني.

ويقولون في كتابهم المسمى «دستور حزب التحرير» في الأمور التي يتغير بها حال الخليفة فيخرج بها عن كونه خليفة، ويجب عندئذ عزله في الحال: «الفسق فسقًا ظاهرًا».

ويقول النبهاني في كتابه المسمى «نظام الإسلام» ما نصه: «وإن خالف الشرع أو عجز عن القيام بشؤون الدولة وجب عزله حالاً» اهـ.

الرد:

هذا الكلام مخالف لأحاديث تؤكد أمر الخليفة، يخالف قوله صلى الله عليه وسلم: «من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» ـ رواه مسلم ـ، ويخالف الحديث الصحيح المشهور الذي يأمر بعدم الخروج على الخليفة إلا من أجل الكفر وفيه: «وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا» رواه البخاري ومسلم( )، ومعنى «بواحًا» أي ظاهرًا.

قال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه( ): «ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق» اهـ.

وهؤلاء التحريرية جعلوا الخليفة ملعبة كالكرة بين أيدي اللاعبين، فالخليفة لا يُقلع بالمعصية لكن لا يطاع فيها، ففي صحيح مسلم( ) أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال له عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة: «إن ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا ـ أي بعضنا بعضًا ـ والله تعالى يقول :{لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكونَ تجارةً عن تراض منكم} [سورة النساء/29]، ويقول :{ولا تقتلوا أنفسكم} [سورة النساء/29]. فسكت عبد الله بن عمرو ثم قال: «أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله».

فالخليفة إن كان يأمر بالخير والشر مهما فسق لا يرفع عليه سلاح لأن الفتنة التي تتسبب عن خلعه أعظم من معصيته.

حزب التحرير يزعم أن من مات من غير بَيْعَة لخليفة مات ميتة جاهلية

ومن أباطيلهم قولهم: إن من مات من غير بَيْعَة لخليفة مات ميتة جاهلية( )، فإنهم يذكرون في كتابهم المسمى بالخلافة( ) ما نصه: «فالنبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية» اهـ.

ويذكرون في نفس الكتاب ما نصه: «فالمسلمون جميعًا ءاثمون إثمًا كبيرًا في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين، فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة» اهـ، ويذكرون في موضع ءاخر منه: «والمدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة هي ليلتان، فلا يحل أن يبيت ليلتين وليس في عنقه بيعة»، ويقولون( ): «... وإذا خلا المسلمون من خليفة ثلاثة أيام أثموا جميعًا حتى يقيموا خليفة» اهـ.

ويقولون في كتاب ءاخر ما نصه  :«والمسلمون في لبنان كما في سائر بلاد المسلمين ءاثمون عند الله إذا لم يعملوا على إعادة الإسلام للحياة ونصب خليفة واحد يجمع أمرهم» اهـ.

الرد:

هذه العبارات من جملة تحريفهم للكلم عن مواضعه فإن هذا الحديث رواه مسلم( ) عن ابن عمر بهذا اللفظ «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، فهم يذكرون منه للناس الجملة الأخيرة فيكررون «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» مع إيهامهم أن ذلك لمن لم يتكلم معهم في أمر الخليفة كما هم يتكلمون بألسنتهم.

ومعنى الحديث ليس كما يزعمون إنما المعنى أن من تمرد على الخليفة واستمر على ذلك إلى الممات تكون مِيتَتُهُ ميتة جاهلية، كما يدل على ذلك حديث مسلم( ) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية».

فقوله:«فمات عليه» صريح في أن الذي يموت ميتة جاهلية هو الذي يأتيه الموت وهو متمرد على السلطان، ويدل عليه أيضًا حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية» رواه مسلم( ).

ويدل على ذلك أيضًا حديث البخاري( ) ومسلم( ) عن حذيفة بن اليمان قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وصف الدعاة إلى أبواب جهنم: «فالزموا جماعة المسلمين وإمامهم»، قال حذيفة: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلَّها»، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذًا أنتم تموتون ميتة جاهلية.

ثم ما يدعيه حزب التحرير فيه حرج، فالرعايا المسلمون اليوم عاجزون عن نصب خليفة والله تعالى يقول :{لا يكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعها} [سورة البقرة/286]، فهم ضربوا بحديث البخاري ومسلم عُرض الحائط وتشبثوا بحديث مسلم بغير محله.

فتبين بطلان قولهم وتمويههم، وغرضهم التشويش على المسلمين حتى يتبعوهم ويبايعوا زعيمهم تقي الدين النبهاني الذي ادعى الخلافة وبايعه جماعته على ذلك. وقد قسم البلاد ـ على زعمه ـ بين أولاده الثلاثة، أحدهم سماه أمير العراق، والثاني أمير بلاد الشام، والأخير أمير مصر، وسمى زوجته «أم المؤمنين» ـ على زعمه ـ. والآن بعد موته نصبوا خليفة وهو موجود في الدانمرك أقام الحد على من زنى منهم.

بيان حكم نصب الخليفة على المسلمين وحكم من يخرج على الخليفة مع وجوده وحكم من يموت في زمن ليس فيه خليفة

أما المسئلة الأولى وهي نصب الخليفة: فقد اتفق علماء المسلمين على وجوب نصب الخليفة، ثم الخليفة تثبت خلافته بمبايعة أهل الحل والعقد من المسلمين أي أفاضل المسلمين من أهل العلم والتقوى، فقد قامت أول خلافة في الأمة المحمدية خلافة أبي بكر رضي الله عنه بمبايعة عمر رضي الله عنه، ثم تتابع المسلمون الذين بالمدينة على بيعته، فثبتت خلافته على رقبة كل مسلم ممن كانوا ذلك الوقت بالمدينة ومن كانوا في غيرها، فصار حرامًا على كل مسلم أن يخرج على أبي بكر ويتخلى عن إمارته بأن يقول ليس لك عليَّ إمارة، ثم جاءت خلافة عمر رضي الله عنه باستخلاف أبي بكر له في المدينة المنورة، فوافق من كان من المهاجرين والأنصار بالمدينة على نصب عمر خليفة، فثبتت خلافته على رقبة كل مسلم على وجه الأرض من كان حاضرًا بالمدينة ومن لم يكن، ثم قامت خلافة عثمان رضي الله عنه بنصب عدد من المهاجرين والأنصار ممن كانوا بالمدينة له كما أمرهم عمر بذلك فثبتت بيعته على رقبة كل مسلم، فخرج عليه أناس من غير الصحابة فنازعوه، ثم قامت خلافة علي رضي الله عنه بمبايعة المهاجرين والأنصار الذين كانوا بالمدينة له فصارت بيعته ثابتة على كل مسلم ممن حضر المدينة ومن كان غائبًا، فصار الخروج عليه ذنبًا كبيرًا.

أما الحالة الثانية: حكم الخروج على الخليفة: فقد اتفق أهل العلم أهل الحق على أن الخروج على الخليفة حرام من الكبائر بالإجماع إذا كان الخليفة راشدًا كهؤلاء الأربع، وعلى الفاسق أيضًا عند الجمهور، فكان الخروج على أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي رضي الله عنهم ذنبًا كبيرًا، وكان خرج على عثمان أناس ليس فيهم أحد من الصحابة فنازعوه ولم يرضَوا بخلافته حتى أدَّى الأمر بهم إلى أن قتلوه، ثم حصل الخروج على علي في ثلاث مواقع، الوقعة الأولى كانت بالبصرة كان فيها بعض الصحابة طلحة والزبير وعائشة ثم طلحة والزبير انصرفا من المعركة لأن عليًّا ذكَّرَ كل واحد منهما حديثًا كان قاله الرسول في شأن علي، وكانا تائبين لم يدركهما الموت إلا بعد التوبة، أما عائشة رضي الله عنها فقد تابت وندمت ندمًا كبيرًا على وقوفها في معسكر الخارجين على علي، فهؤلاء الثلاثة لم يموتوا إلا بعد أن عادوا إلى طاعة علي وهؤلاء الثلاثة من المبشرين بالجنة فذنبهم مغفور.

وقد وردت أحاديث صحيحة في عظم ذنب من خرج على الخليفة منها حديث ابن حبان: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجع»( ) وهو حديث صحيح بلا خلاف، رواه عدد من المحدثين في تصانيفهم كالحافظ الخطيب البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقه»( )، وحديث: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله لا حجة له يوم القيامة ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية»، ورواه مسلم( ) بهذا اللفظ.

وكان ممن خرج على علي رضي الله عنه أيضًا معاوية وأناس من أهل الشام لأنه كان واليًا أيام عمر وعثمان على الشام، وكان خروجه بغير حجة شرعية فإن عليًّا كان خليفة راشدًا، بل من شدة رغبة معاوية في الملك والرئاسة كما وصفه بذلك سيدنا علي رضي الله عنه فكان قتال الذين قاتلوه في البصرة والذين قاتلوه مع معاوية في صفين ظلمًا كبيرًا ذكر ذلك عن عليّ الحافظ ابن حجر في كتابه «المطالب العالية»( ) ونقل ذلك عن مسند مُسَدَّد وكتاب الحافظ سعيد ابن منصور فكان الخروج على علي كالخروج على أبي بكر وعمر وعثمان لأنه لا يجوز الخروج على الخليفة إلا أن يحصل منه كفر صريح، ولم يكن خروج معاوية على علي وقتاله له عن اجتهاد إنما كان حبًّا في الملك وليس كاجتهاد المجتهدين في الأحكام كاختلاف أبي بكر وعلي في حكم مسئلة الجد والاخوة فإن أبا بكر اجتهد فقال الجد مثل الأب فلا ترث إخوة الميت معه واجتهد سيدنا علي فقال الجد والاخوة كغصنين من شجرة فيشتركان في الإرث، وهذا الاجتهاد هو الذي ورد في الحديث( ) :«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»، وهكذا اختلاف الإمام مالك والإمام الشافعي، فهذا الاجتهاد هو الاجتهاد الذي هو مأمور به لمن كان أهلاً.

وأما حكم من يموت وهو خارج على الخليفة أي قبل أن يعود إلى طاعة الإمام فهؤلاء ينطبق عليهم حديث البخاري ومسلم( ) :«من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرًا فمات على ذلك مات ميتة جاهلية»، وهذا معنى الجزء الأخير من حديث مسلم المذكور أي قوله صلى الله عليه وسلم :«ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، ومعنى مات ميتة جاهلية أي مات وحالته كميتة عباد الأوثان أي شبيهة بهم وليس معناه أنه كافر، وإنما معناه أن من خرج على السلطان يكون عاصيًا معصية كبيرة، فإذا تبين هذا تبين فساد قول حزب التحرير إن من يموت في هذا الزمن ولم يبايع خليفة يموت ميتة جاهلية، فكلامهم هذا يشمل من مات في هذا الزمن وقبل هذا منذ انقطعت الخلافة وهذا شطط كبير وظلم عظيم وهذا تحريف منهم للحديث بل حال من يموت في هذا الزمن يعلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي رواه البخاري وهذا ينطبق على الحالة الثالثة وفيه أن حذيفة قال: فإن أدركني زمان ليس فيه إمام ولا جماعة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :«اعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»( ). هذا الحديث وحديث مسلم عن ابن عمر الذي فيه: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، كلاهما صحيح لكن حديث حذيفة هذا أقوى لأن البخاري أسانيده أصح من أسانيد مسلم كما هو المعروف عند المحدثين، فواجب على من ينتسب إلى حزب التحرير أن يرجعوا عن هذا وليتأملوا في حديث حذيفة لأن الرسول عليه السلام لم يقل له فأنت إن مِتَّ ولم تبايع خليفة تكون ميتتك ميتة جاهلية بل أرشدهُ إلى ترك التحزب لتلك الفرق أي لا تقاتل مع فرقةٍ ضد فرقة أخرى وهذا كالقتال الذي حصل في الماضي بين المغرب وموريتانيا فالحديث ينهى عن التحزب لإحدى الفرقتين دون الأخرى بقتال الأخرى معها، وهذا أمر ظاهر كالشمس.

والعجب كيف التبس هذا الأمر على حزب التحرير حتى صاروا يرددون بين الناس الجزء الأخير من حديث مسلم المذكور: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» مع حذفهم للواو ليوهموا الناس أن هذا القدر هو الحديث كله أوهموا الناس أن الحديث هنا أوله، وهذا يعني أنهم تائهون عن تحصيل العلم الشرعي.

أما حاصل مسئلة الخلافة فإن نصبها واجب فمن تقاعس عن إقامتها مع القدرة فهو عاص ومن قال إننا نستطيع في هذا العصر فليرنا أثر هذا القول.

ولم يزل حزب التحرير منذ نحو أربعين سنة يلهج بذلك ويكثر ذكر ذلك على مسامع الناس ولم يقدروا على نصبها بل هم عاجزون كغيرهم، وأما أهميتها فهو أمر ظاهر وكتب العلماء في العقيدة والفقه طافحة بذلك، وليست الخلافة من أركان الإسلام والإيمان بل أركان الإسلام الخمسة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل( ) حين جاءه بصورة رجل لا يعرفه أحد من الذين كانوا مع الرسول في ذلك المسجد فسأله عن الإسلام قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال :«أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً»، ثم قال: أخبرني عن الإيمان، قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، فلم يدخل الرسول الخلافة في أركان الإسلام ولا في أركان الإيمان. فلا يصح فلا يجوز أن يقال لا إسلام بلا خلافة، وكيف يجوز ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهور شطر الإيمان» الحديث، رواه مسلم( )، فما أجهل من يقول ذلك وما أشد تجرئه على الافتراء على الدين فهؤلاء تجدهم لا يهتمون بتعلم وتعليم أحكام الطهور الذي أكده الرسول هذا التأكيد حيث سماه نصف الإيمان فقصارى القول في هذا إنه تائه عن الحق وعن الدين.

ملاحظة: من أراد أن يطلع على هذه الأحاديث فليراجع صحيح البخاري( )، وهاكم أيها المطالعون نص حديث حذيفة في رواية البخاري من كتاب البخاري:

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، حدثني بُسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دَخَن»، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال :«نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال :«تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال :«فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تَعَض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» اهـ.

وفي كتاب الفتن( ) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية» حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن الجعد أبي عثمان حدثني أبو عثمان العطاردي قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية»، وحديث ابن عباس هذا رواه مسلم أيضًا وهو من الأحاديث المتفق عليها من البخاري ومسلم، ومعناه ظاهر أن الذي يموت ميتة جاهلية هو الذي يكون في وقت الخليفة ثم يتمرد عليه ويموت وهو مخالف للخليفة وفي معناه حديث ابن حبان وهو :«من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجع» فتبين بهذا أن التحريرية حَرَّفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوه على غير محله، وعلى قولهم كل من مات منذ انقطعت الخلافة إلى يومنا هذا فميتته ميتة جاهلية فقد جعلوا المسلمين الذين ماتوا منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا كالجاهلية عباد الأوثان، فأعظم بهذه فِريةً.

وهذه الفرقة كأنها تنقض دين الله شيئًا فشيئًا وحسبنا الله ونعم الوكيل، فمن أراد الرشاد والرجوع إلى الإسلام منهم فليتبرأ من هذه الاعتقادات وليتشهد حتى يدخل في الإسلام من جديد وهذا الكلام ينصب على من اعتقد منهم هذه العقائد وأما من انتسب إليهم انتسابًا ولم يعتقدها فلا نكفره ولكن نحذره من الثبات معهم.

[2] قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ) الْهَنَاتُ جَمْعُ هَنَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْفِتَنُ وَالْأُمُورُ الْحَادِثَةُ .

[3] حديث الزبير المذكور رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه بأكثر من طريق

[4] رواه مسلم