الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

إن جسد الإنسان بعد موته معرض للفناء والبلى والتفتُتِ وأن تأكله الأرض، وفناء الأجساد يختلف بحسب حال الأرض وطبيعتها من حرارة وبرودة ورطوبة مما يعجل تفتت الجسد أو يأخره لمدة أطول، وثبت عند أهل السنة أن هناك أجساد لا تبلى ولا تؤثر فيها الأرض مهما بقيت وكيفما كانت طبيعة الأرض حواليها، ومنها أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وشهداء المعركة، وبعض أولياء الله تعالى، والمؤذن الذي أذن محتسباً لوجه الله، أما غير هؤلاء فمعرضون أن تأكل الأرض أجسادهم، سواء كانوا مسلمين أوغير ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ليس من الإنسان شيء إلَّا يَبلى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عَجْب الذَّنَب، ومنه يُركَّب الخلقُ يومَ القيامة ).الإنسان يبلى جسمه كله إلا جزء بسيط منه وهي عظمة تُسمى عَجْب الذَّنَب، قال النووي رحمه الله: "عجب الذنب: هو عظم في أسفل الصُّلب، وهو رأس العصعص، وهو العظم الذي بين الأليتين الذي في أسفل الصلب، وهو أول ما يخلق منه الآدمي وهو الذي يُركَّب منه"؛ اهـ.

فأجساد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، الله حَرَمَ على الأرض أن تأكل أجسادهم ، فعن أوس بن أوس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ)، قالوا: وكيف تُعرض صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ يقولون: بَلِيتَ، فقال: (إن الله قد حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء عليهم السلام). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( أتيت على موسى ليلة أُسريَ بي عند الكَثِيب الأحمر وهو قائم يُصلِّي في قبره)؛ وقد ألَّف البيهقي رسالة بعنوان "حياة الأنبياء في قبورهم" وقال في دلائل النبوة: "الأنبياء أحياء عند ربهم كالشهداء، وشهداء المعركة أيضاً لا تأكل الأرض أجسادهم مهما مكثوا في قبورهم جاء في "صحيح البخاري" من حديث جابر رضي الله عنه قال: "لما حضر أُحُد دعاني أبي من الليل، فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول مَن يُقتَل مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعزعليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عليَّ دَينًا فاقضِ، واستوص بأخواتك خيرًا، فأصبحنا فكان أولَ قتيل، ودُفِن معه في قبره آخر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعتُه غير هُنَيَّة في أذنه". وقال الحافظ في "الفتح" في الكلام على فضائل أبي جابر قال: وفيه كرامته بكون الأرض لم تبلِ جسدهُ مع لُبثه فيها، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة"؛ اهـ. وهُنَيَّة: شيء من أذنه، وقال الحافظ في "الفتح": إنها شعيرات كنَّ في شحمة أذنه. وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى معركة أحد بعد أربعين سنة استُصِرخنا إليهم فأتيناهم فأخرجناهم، فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دماً وفي رواية ابن إسحاق عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس. وفي رواية أخرى لما أراد معاوية أن يجري العين نادى مناديه من كان له قتيل بأحد فليشهد، قال جابر فحفرنا عنهم فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما، ويقال إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضي الله عنهم أجمعين، وكان ذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا وصدق الله العظيم في قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). وجاء عن سعيد بن المسيب قال لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبررسول الله أيام الحرة وما في المسجد يومها من أحد. وثبت وتواتر عن بعض الأولياء العارفين بقاء أجسادهم كما هي من غير تفتت مدة طويلة بعد دفنهم وهذا استفاض في مدن المسلمين من فتح بعض القبور القديمة لحاجة فيجدون فيها جسدا كما هو مضى عليه مئات السنين وآخر من شوهد في عصرنا ما أخر به الشيخ المقرئ سهيل الزبيبي الدمشقي وكان إمام وخطيب جامع النجارين في ناحية الشاغور بدمشق القديمة عن عبد المتعال الحفار الدمشقي أنه شاهد جثة الحافظ ابن الصلاح صحيحة لم تتغير منها شيء وقد مضى على وفاته أكثر من ثمانمائة سنة. وكانت الحكومة ضربت القبر لتوسعة الطريق فوجدوا جثة شيخ الحديث أبو عمر ابن الصلاح كما هي وشاهد الناس الجثة ومنهم حفار القبور عبد المتعال. وملحق بهؤلاء المؤذن المحتسب الأجر عند الله لحديث وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤذن المحتسب كالشهيد المتشحط في دمه، إذا مات لم يدود في قبره".رواه الطبراني في الكبير. ومعنى المتشحط ( المتخبط والمضطرب والمتمرغ) .

فيا أيها المعتني بجسده غافلاً عن طاعة ربه أذكرْ أنك ستكون يوماً ما في حفرٍ مضى إليها من كان قبلك من أهل الوجوه الناعمة والأجساد الحسنة فصاروا أكلت الديدان، تعفرت وجوهم بالتراب، وتمزقت جلودهم الرقيقة، وكسرت العظام، ومزقت الأشلاء، وسالت الأحداق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديد ودودا، وهجمت دواب الأرض على أجسادهم حتى تمكن منهم البلى . فاذكر القبر والبلى والموت وما بعده، اللهمَّ ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض يا أرحم الراحمين.