الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

العقوق ضد البر وأصله في اللغة من العق أي الشق والقطع قال ابن منظور في كتاب لسان العرب: وعقَ والديه يعقهما عقاً وعقوقاً، قطعهما ولم يصل رحمه منهما وقد يُعَمُّ بلفظ العقوق جميع الرحم،أه. وعقوق الوالدين أو أحدهما الذي هو من كبائر الذنوب هو أن يؤذي والديه أذى ليس بهيّن ومع ذلك فإيذاء الوالدين أذى شديداً أو خفيفاً حرام. لكن الإيذاء الشديد بالقول أو الفعل هو ثاني أكبر الكبائر بعد الشرك بالله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ" ومن صور العقوق المحرم أن يشتم الولد الأم والأب، أو ضرب الأم أو إهانتها أو إحداهما. ومن جملة العقوق إذا أطاع الولدُ أمه على ظلم أبيه، أو أطاع أباه على ظلم أمه، وكذلك ترك الولد النفقةَ الواجبة عليهما إن كانا فقيرين، وأما طاعتهما فيما يأمرا به فقال أهلُ العِلْم يُشرع أن يُطيعَ الولدُ والِدَيْه في المباح والمكروه لكن لا يجب طاعتُهما في كلّ مباح بل يجب أن يُطيعَهما في كل ما في تركه يَحْصُل لهما غمٌّ وأذى شديد بسببه وإلا لا يكون واجبًا، فإذا طلب أحَدُ الوالِدَين من الوَلَد ألا يُسافرَ وكان سفَرُه بلا ضرورة وجبَ عليه تركُ ذلك السّفر إذا كان يغتم الوالدان أو أحدهما بسفَره. وإذا أراد الأبُ منع ولَدِه من الخروج من البيت بدون إذْنه فإن كانَ خروجُه يُسَبّبُ للأبِ غمًّا شديدًا بحيث يَحصُل له انهيار أو شِبْهُ ذلك عندئذ لا يجوز له الخروج بدون إذْنهِ بل يكون خروجه من الكبائر، فدرجة المعصية في ذلك على حسب الإيذاء الذي يَحصُل للوالد. فإذا خرَج الولد البالغ بدون رضى والديه بحيث يغتمّان من ذلك فعليه بكلّ خطوةٍ سيّئة. أما إن كان لضرورة فيجوز خروجه. وكذا لو تأخر الولد أو البنت في الرجوع إلى البيت بوقت يحصل فيه الريبة والقلق عليهما فيتأذى أحدهما فهو من العقوق كما يحصل من بعض الشابات والشبان من السهر خارج البيت إلى وقت يقلق الأم أو الأب قلقاً شديداً ويغتمان من الخوف على الولد فهو عقوق، وإذا طلبَ الأبُ أو الأمّ من الابنِ شيئًا مباحًا كغَسْل الصحون أو ترتيب الغرفة أو تسخينِ الطعام أو عمَلِ الشاي وما أشبهَ ذلك ولم يفعل فإن كان يَغتَمُّ قلبُ الوالد أو الوالدة إن لم يفعل حرامٌ عليه أن لا يفعل. قال الله تعالى:( وقضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا \ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، أمرَ الله عبادَه أَمْرًا مقطوعًا به بأن لا يَعْبُدوا إلا إيّاه وأمَر بالإحسَان للوالِدَين والإحسَانُ هو البرُّ والإكرام، قال ابنُ عبّاس لا تنفُض ثوبَك فيُصِيْبَهُما الغبار وقال عُروَةُ لا تمتَنع عن شيء أحَبّاه. فمهما بالغ الولد في إكرام الأبوين كان خيراً له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ)، وقَد نهَى الله تعالى عبادَه في هذه الآية عن قولِ "أفٍّ" للوالِدَينِ لما فيه من الإيذاء لهما فلو طلَبا منه أن يشتري لهما غرضًا مثلاً أو أن يعمل الشاي لهما أو أن يغسِل الصحون فقال لهما "أفّ" جادًّا غير مازح فقد وقَع في كبيرة أما أن امتنَع فقط ولم يقل لهما "أفّ" فإن كانا يتأذيان بذلك يكون معصية وأما إن كانا لا يتأذيان من امتناعه من ذلك فلا يكون معصية، وكلمة "أفّ" صَوْتٌ يدُلُّ على التّضَجّر وأصْلُها نفخُكَ الشيء يَسْقُط عليك من تُراب ورَماد، وللمكانِ تُريد إمَاطَةَ الأذَى عنه فقِيْلت لِكُلّ مُستَثقل وليس كلمة "أف" وحدها العقوق فقط ، بل كل كلام فيه إيذاء كالصراخ في وجههم على معنى الإيذاء الشديد، وما شابه ذلك فهو مثل كلمة أف،ﱠ (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، لا تزجُرْهُما عما يتعَاطيانه مما لا يُعْجِبُك، والنّهيُ والنّهْرُ أخَوان، (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، أي ليّنًا لطِيْفًا أحسَنَ ما تجد كما يقتضيْه حُسْن الأدب أو هو أن يقولَ يا أبَتاه يا أمّاه ولا يَدعُوهما بأسمائهِما فإنّه من الجَفاء وسوءِ الأَدَب معهما. وفائدةُ قول الله تعالى "عندَك" أنّهما إذا صارا كَلاًّ على ولَدهما ولا كافِلَ لهما غيرُه فهما عندَه في بيْتِه وكنَفِه وذلك أشَقّ عليه، فهو مأمورٌ بأن يَسْتعمِلَ معهما لِيْنَ الخلُق حتى لا يقولَ لهما إذا أضْجَرَه ما يَسْتقذر منهما أفّ فَضْلاً عما يزيدُ عليه، ولقَد بالغَ سبحانَه في التّوصية بهما حيث افْتتَحَها بأن شَفَعَ الإحسانَ إليهما بتوحيده ثم ضَيَّقَ الأمرَ في مراعاتِهما حتى لم يُرَخّص في أَدْنَى كلمةٍ تَنْفَلِتُ منَ المتضَجّر مع مُوجبات الضّجَر ومع أحوالٍ لا يَكادُ يَصْبِرُ الإنسانُ معَها (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، أي ألِن لهما جانِبَك متذلّلاً لهما من فَرْطِ رَحْمَتِك إيّاهما وعطفِك عليهما ولِكبَرهما وافتِقارِهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، وخَفْضُ الجناح عبارةٌ عن السّكون وتَرْكِ التَّصَعُّب والإباء، أي ارفُقْ بهما ولا تَغْلُظ عليهما.،( وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، أي مِثْلَ رحْمَتِهما إيّايَ في صغري حتى ربّياني، أي ولا تكتَفِ برحمتِك عليهما التي لا بقاء لها وادعُ الله بأن يَرحَمهُما رَحْمَتَه الباقية، واجْعَل ذلك جزاءً لرَحْمَتِهما عليك في صِغرك وتَرْبيتِهما لك، والدعاءُ مُخْتَصٌّ بالأبَوين المسلمين. فالواجب على الابن بر الوالدين، والإحسان إليهما، والقيام بحقوقهما، وطاعتهما في المعروف، أما إذا أمرا أو أحدهما بمعصية، فلا طاعة حينئذ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، والوالدان سبب من أسباب دخول الجنة ببرهما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ)، ومعنى رَغِمَ: ذَلَّ وَقِيلَ: كُرِهَ وَخُزِيَ، وقال صلى لله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ بوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجِلَةُ النِّسَاءِ) والمعنى لا يدخلها مع الأولين. فبعد ما ذكر من فضل برِ الوالدين ووعيد عقوقهم فأي عاقل يعدل عن برهم إلى عقوقهم؟! أخي المسلم، إن وقعت في شتم والديك أو أحدهما أو إيذائهما بقول أو فعل فسارع رحِمك الله إلى التوبة بأن تستسمح منهما واعزم بقلبك ألا تعود لمثل ما صدر منك وأحسن إليهما وقل لهما قولاً كريماً. وأكثر من الدعاء والاستغفار لهما وقد قال بعضُ العلماء بوجوب الاستغفار للأبوين المسلمين في العمر مرّة، ثم الزيادةُ على ذلك قُربَةٌ عظيمة، وليس شرطًا أن يكون هذا الاستغفار بعدَ وفاتهما. فالولَد إن استغفر لوالِدَيه بعد موتهما ينتفع والداه بهذا الاستغفار حتى إنهما يلحَقُهما ثوابٌ كبير فيَعْجَبان من أيّ شيء جاءهما هذا الثواب فيقولُ لهما المَلَك هذا منِ استغفار ولَدِكُما لكُما بَعْدَكُما اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا وارحمهما برحمتك الواسعة.