لا يعلم الغيب كله إلا الله

 الله تبارك وتعالى موصوف بالعلم، وعلم الله عز وجل يشمل الكبير والصغير، والجليل والحقير، والغائب والحاضر، والكليات والجزئيات، قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الله تعالى يعلم ما غاب عنا وما لم يغب، بعلم أزلي قديم لا بداية له ولا هو محدث ولا يطرأ عليه تغير ولا تبديل، أمرَ الله القلم أن يكتب  بقدرته في اللوح المحفوظ ما شاءه لخلقه من حياة وموت ورزقٍ ونحوه، وأطلع الله من شاء من خلقه وعلمّهم ما شاء، واستأثر بعلم الغيب وحده كله فلا يعلم الغيب كله إلا الله عز وجل، وهذه من المسائل الكبرى التي بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه أتمَّ البيان والإيضاح ، وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم معلماً لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله وحده، فإنه هو المتفرد بذلك وحده لا شريك له.

قال تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وقال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ وقال سبحانه: وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ، وقد أخبرالله سبحانه وتعالى أنَّ مفاتح الغيب عنده وبينها بقوله: إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ، بهذه الآيات دلالة واضحة على أنه لا أحد مهما علا قدره وبلغ علمه يحيط بعلم الغيب إلا ما علمَهُ الله تعالى فقط، فلا الملائكة الكرام ولا الجن ولا أحد من الأنس نبياً كان أو ولياً صالحاً يحيط بعلم الغيب ومن ادعى ذلك فقد أعظم الفريَةَ، وكذب قول الله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ.

ومن قال إن أحدًا غيرَ الله يعلم بكل شىء فقد ساوى بين الله وبين المخلوق، فقول بعض الناس: إنَّ الرسول يعلم كل الغيب أي يعلم جميع ما يعلم الله من طريق عطاء الله فقد ساوى بين الله تعالى وبين الرسول والعياذ بالله تعالى. لأنَّ الله تعالى قال في كتابه: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ، والغيب في هذه الآية المراد به جميع الغيب، والغيب هو ما غاب عن حس الخلق فما غابَ عن حس الخلق لا يعلم جميعه إلا الله، قال تعالى: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بنص هذه الآية لا يعلم جميع تفاصيل ما يفعله الله به وبأمته فكيف يتجرأ متجرئ على قول: إنَّ الرسول يعلم بكل شىء يعلمه الله؟

ولتزداد يقينا أنظر في كتاب الله تجد أنَّ الله يقول للرسول محمد عليه السلام: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، ولقد انزل الله على نبيه جملة من قصص القرون الغابرة والأنبياء ومعجزاتهم ولو كان النبيّ يعلم الغيب لما احتاج ليقص عليه القصص قال الله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا وقال الله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ، أي ما كنت تعرفه قبل أن نوحي إليك، وقال تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ 

نعم، نحن نحبُّ رسولَ الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه الرُّسل غاية الحب لكن لَّا نَرفعه فوق منزلته التي أَنزله الله إيَّاها فلا نساويه بالله تعالى ونصفه بأنه بكل شيء عليم  بل هو عبدٌ ورسول لا يَعلم الغيبَ إلا ما علمه ربه تبارك وتعالى، ويدل على ذلك ما جاء في حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: لما ضلت ناقته وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لعلم مكانها فقال صلى الله عليه وسلم: والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي وأنه أخبرني أنها بمكان كذا حبستها شجرة، وأرسل فأتى بها، ولو كان يعلم لما بحث عنها وهي في جواره، وإلَّا فلماذا لم يَعرف كثير من الأمور التى كانت في حياته!؟ أليس حمل إلى معركة أُحد عمَهُ وحبيبه حمزة أسد الله وقُتل...؟

 أليس أرسل سبعين من أصحابه ليعلموا الناس فَكمنَ لهم المشركون فقتلوهم وكانت فجيعة للنبيّ والمسلمين فيهم...؟ أكان يعلم بذلك وأرسلهم ليموتوا...؟  ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ناسٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً، يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حِرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهمَّ بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حِرامًا، خال أنس، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزتُ ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهمَّ بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيتَ عنا.

ولماذا لم يَعرف النبي صلى الله عليه وسلم  زوجته عائشة رضي الله عنها وهي تسير أمامه عند رجوعه من المقابر ذات ليلةٍ، حيث تركها في ليلتها وقامَ من جوارها ليزور الموتى بتكليفٍ من الله عن طريقِ الوحي،  فلحقت به ثم أسرعت في الرجوع  فسألها عن سبب تردُّد النَّفَس المضطرب في صَدرها على غير هيئة النَّائم العادي؟ فترددت في الجواب، فقال: إن لم تخبريني فسيخبرني العليمُ الخبير، والحديث في صحيح مسلم!؟

وهكذا كتب الحديث مليئة بالرويات الصحيحة التى فيها أنه عليه السلام بشرٌ يعلمُ ما شاء الله أن يعلمه وكذا كل الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون الغيب كله فهذا إبراهيم الخليل يحضره الملائكة وهو لا يعرفهم أنهم من ملائكة الله فيأتي لهم بعجلٍ ليأكلوا وهو يَحسَبُهم بَشراً...!؟ وكذا يعقوب عليه السلام لم يَعلم مكانَ ولدَيه يوسف وأخيه، وهما بمصرَ؟.

فإذا كان حال الأنبياء أنهم لا يعلمون الغيب كله فكيف بمن يدعي ذلك من عامة الناس ويخدعون الناس أنه عندهم علوم الغيب وأنهم بكل شىءٍ عالمين فما أشدَ جهلم وما أبشعَ الغلو بداعي المحبة فيوقعُ بالهلاك فمدعي علم الغيب للنبي كله قد غلا الغلوَ الذي نهى الله ورسوله عنه، قال الله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إياكم والغلوَّ في الدين فإنه أهلكَ من كانَ قبلكم الغلو في الدين رواه ابن حبان وغيره. والغلو هو الزيادة عن الحد المأمور به، فقد أمرنا أن نعظم الأنبياء لكن لا يجوز أن نرفعهم فوق منزلتهم كوصفهم بصفات الربوبية، ونختم بقوله تعالىوَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، فالمنافقون كانوا مع النبي يحضرون مجالسه ولم يكن يعلم بنفاقِهم وكفرهم فكيف يسوغ لقائل أن يقول أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عندهُ علمُ الغيب كله سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.

.