الحمد لله العلي الجبار والصلاة والسلام على النبي المختار وعلى آله وأصحابه الأبرار.

جعل الله تعالى القبر حاجزًا بين الدنيا والآخرة، ويسمى المكوث في القبر الحياة البرزخية، فهو انقطاع عن الدنيا، فالمقبور لا يعامل فيه بحسب اسمه أو جاهه أو رتبته في الدنيا، بل بحسب عمله وما قدم قبل الموت، فالقبر أول منازل الآخرة.

القبر حفرة موحشة مظلمة يخاف منها الإنسان بطبعه، فكم أرَّقت ليالي الصالحين وأسهرتهم خوفًا منها، وتفكرًا فيها، داعين الله أن ينجيهم من عذابها، فكم وعظت بصمت من يتعظ ! حفرة ضيقة يُوسدُ الميت فيها، ثم يُهالُ التراب عليه وينقطع عنه البشر، فلا ضوء ولا شىء معه إلا عمله، فالكفن يبلى والطيب يذهب ويبقى العمل وما قدم المرء لهذا المنزل المهيب الذي يتساوى الناس فيه بافتراش التراب.

إن ما يجري في القبور من العجائب لا ندركه بحواسنا ونحن أحياء إلا مَن أطلعه الله على ما يحصل في بعض القبور تصديقًا وتحقيقًا لما جاء به النبي ﷺ، ولولا أنَّ الله تعالى أوحى لنبيه وأخبرنا ﷺ عن القبر وما فيه لما علمنا، فلا بالتجربة ولا بالتنقيب ولا بالحساب ولا بغيرها من علوم البشر ووسائلهم يُدرك ويعلم ما في القبور من أهوال وعذاب، بل يدرك بما جاء عن النبي ﷺ من صحيح الحديث بعذاب القبر ونعيمه، ومن لا يؤمن بما جاء به النبي بالوحي كافر مكذب لخبر الوحي. وفي القرءان العظيم من الآيات ما يشير إلى أحوال المقبورين من عذاب ونكد، وكذا في أحاديث رسول الله ﷺ الكثير عما في القبر وأحواله وأهواله، فعن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ. سورة إبراهيم/27، قال: " نَزَلَتْ في عَذَابِ الْقَبْرِ" رواه ابن حبان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الله تعالى: ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) سورة طه/124، قال: "عذاب القبر"، وقال الله تعالى: ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) سورة غافر، ولا غدو ولا عشي في الآخرة، وإنما هو في الدنيا، فتبين أنهم معروضون بعد مماتهم على النار. ويدل على ذلك ما جاء في قوله عليه السلام في حديث صاحبي القبرَين المعذبَين " إنهُمّا ليعَذبِانِ" رواه البخاري، وكذا في حديثه ﷺ: " إستنزهوا من البول فإنَّ عَامةَ عذابِ القبرِ منهُ" رواه الدارقطني، وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ بالله من عذاب القبر علمًا أنه ﷺ معصوم لا يخشى أن يعذبَ في قبره ولكن ليُعَلِّم أمتهُ ذلك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ ﷺ أنه كان يقول بعد التشهد في الصلاة: ( اللهمَّ إني أعَوذُ بكَ من عذابِ جهنم وأعوذ بكَ من عذابِ القبر وأعوذ بك من فتنة الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) رواه أبو داود، وأيضًا فيما يروى قوله عليه الصلاة والسلام: ( القبرُ روضة من رياض الجنة أو حُفرةٌ من حُفَرِ النَار ) رواه الترمذي، وفي تسمية النبي لسورة الملك بالمانعة المنجية من عذاب القبر دليل على ثبوته كما سيأتي في الحديث.

عود الروح إلى الجسد في القبر

ثبتَ في الأخبار الصحيحة عود الروح إلى الجسد في القبر كحديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الحاكم وغيره وهو حديث طويل فيه ذكر العذاب في القبر، وفيه " فترد روحه إلى جسده "، وحديث ابن عباس مرفوعًا: ( ما من رجل يمر بقبر كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه) رواه السيوطي، ونحنُ نؤمن بما ورد في هذا الحديث ولو لم نكن نسمعُ ردّ السلام من الميت لأنَّ اللهَ حجَبَ عنّا ذلك. ويتأكدُ عودُ الحياة في القبر إلى الجسد مزيد التأكد في حق الأنبياء فإنه وردَ من حديث أنسٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( الأنبياءُ أحياءٌ في قبورِهم يُصلون) رواه البيهقي. وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكر فتَّانَي القبر فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: »أتُرَدُ علينا عقولنا يا رسول الله؟« قال ﷺ: ( نعمْ كهيئَتِكُمُ اليومَ )، فسَكتَ عمر رضي الله عنه مندهشًا، ومعنى الفتَّان الممتَحِن وهما منكرٌ ونكير وقد سُمّيا بذلك لأنهما يَمتَحِنَانِ الناسَ ولأنهما مخوفَان فقد ورد في الحديث الذي رواه ابنُ حبان أنَ الرسول قال: »إذا قُبرَ أحدكم أو الإنسانُ أتَاهُ مَلكانِ أسودانِ أزرقانِ يقالُ لأحدِهما المُنْكَرٌ وللآخرِ النَكيرٌ فيقولانِ لهُ ما كُنتَ تَقولُ في هذاَ الرجلِ مُحمَد« إلى آخر الحديث، وقول الرسول ﷺ: ( نعم كَهيِئَتِكُم اليومَ) أي يكون الجواب من الجسم مع الروح فقال عمر رضي الله عنه: ( فَبِفِيهِ الحَجَر) أي ذاك الخبر الذي لم أكن أعرفهُ وسكت وانقطعت عن الكلام معناه ليس له حُجّة على ما كان يظنه عمر رضي الله عنه، فهو كان يظنُ أنه لا تُرَدُ عليهم عقولهم فلما قال له الرسول بأنه تُرد عليهم عقولهم عَرَفَ خَطأ ظنّه، ويدل على ذلك أنَّ الرسول ﷺ قال: ( إنَّ العَبد إذا وُضع فِي قَبره وتَوَلَّى عَنه أَصحابه وإنَّه ليَسمَعُ قَرع نعَالهم ) إلى آخر الحديث رواه البخاري، وكل ذلك فيه إثبات العذاب في القبر بالروحِ والجَسدِ عذابًا حسيًا.

أسباب النجاة من عذاب القبر

مما ثبت في أسباب النجاة من عذاب القبر المداومة على قراءة سورة الملك، فقد روى الضياء المقدسي من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ( إن في القرءان ثلاثون آية تستغفر لصاحبها حتى يغفر له تبارك الذي بيده الملك)  رواه ابن حبان، وعن ابن عباس عن النبيّ ﷺ أنه قال: ( وَددت أنها - أي تبارك الذي بيده الملك - في قلب كل مؤمن) رواه البيهقي، فمن حافظ على قراءة سورة الملك بلفظ صحيح ونية خالصة كان داخلًا في هذه الأحاديث ولا يعذب في قبره إن شاء الله، وفي الترمذي عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي ﷺ خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها، فأتى النبيَّ ﷺ فأخبرهُ، فقال النبيّ ﷺ: ( هيَ المَانِعة هي المُنجِية ) رواه الترمذي، ومن أسباب النَجاة من عذاب القبر أيضًا لمن مات من غير توبة الموت على نوعٍ من أنواع الشهادة غير القتل في سبيل الله كما جاء في الأحاديث كالمطعون أي من مات بالطاعون والغريق والحريق والمرأة تموت بألم الولادة وغيرهم ممن نالوا الشهادة غير شهادة المعركة، كلهم لا يعذبون في قبورهم إن ماتوا على الإسلام وإن كانوا متلبسينَ بالمعاصي الكبائر لأنهم نالوا نوعًا من أنواع الشهادة، قال عليه الصلاة والسلام: ( من قَتلهُ بَطنهُ لم يُعذب في قَبرهِ)  رواه الترمذي، أي من مات بسبب مرض بالبطن، وكذا من قتل ظلمًا ومن قتل دونَ ماله أو عِرْضِه مما جاء في عدة أحاديث.

ما جاء في أنواع عذاب القبر

قال رسول الله ﷺ: ( إنّ العبدَ إذا وُضِعَ في قبره وتولَّى عنه أصحابه وإنّه ليسمع قرع نِعَالهم، أتاهُ مَلَكَان فيُقعِدَانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرَّجل محمّدٍ؟ فأمَّا المؤمن فيقول: أشهد أنّه عبد الله ورسوله، فيُقال له: انظر إلى مقعَدِك من النّار قد أبْدَلَك اللهُ به مقعدًا من الجنّة، فيراهما جميعًا وأمّا المُنافق والكافر فيُقال له: ما كنت تقول في هذا الرّجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقولُ النّاس، فيقال: لا دَرَيْت ولا تَلَيت، ويُضرَب بمَطَارِق من حديدٍ ضربةً فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثّقلين) رواه البخاري، قال الحافظ العلامة الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله في بيان معنى الحديث: تؤخذُ روح المؤمن إلى مكان ينظرُ منه إلى جهنم فيرى مقعده في النار لو مات على الكفر، وقال: ثمّ إنَّ مُنكرًا ونكيرًا يضربان الكافر بهذه المطرقة ضَربة لو ضرب بها الجبل لاندكَّ، فيصيحُ صيحةً يسمعُها من يَليه من بَهائِمَ وطيور إلا الإنس والجّن فإنَّ الله حَجبَ عنهم ذلك. وفي حديث ابن حبان أنه ﷺ أخبر بسؤال القبر وعذابه، ففي الحديث أنه ﷺ قال: ( وإن كانَ منافقًا قال سَمعتُ النّاس يقولونَ فقلتُ مثلهُ لا أدري فيقولانِ قد كُنّا نَعلمُ أنَكَ تَقولُ ذلكَ فيقال للأرض التَئِميِ عليه فتلتئمُ عليه فتختلف فيها أضلاعه فلا يِزالُ فيها مُعذبًا حتى يبعثهُ الله من مضجعه ذلك) رواه الترمذي، تلتئمُ الأرض عليه حتى تختلف الأضلاع أي تتشابك، ثم بعدها يُعذب بأشياء أخرى وردت في الأحاديث، ثم يبعث يوم القيامة فيدخل النار. وفي الحديث بيان عود الروح إلى الجسد والإحساس، وهنا تنبيهٌ مهم وهو أن ما يتوهَّمُهُ بعضُ الناسِ مِن أنّ القبرَ يضيقُ على كُلِّ أحدٍ في البدايةِ ثم يُوَسّعُ على المؤمنِ غيرُ صحيحٍ. وهو لا يليقُ بِكرامةِ المؤمن التقي عند الله، أما بعض العُصاةِ يحصلُ لهم ذلك برهةً من الزمن، وأمّا ما يرويهِ بعضُهم في حَقِّ سعد بنِ مُعاذ رضي الله عنه أنّ النبي قال: ( لو نَجا مِنها أحدٌ لنَجَا سَعد) فغيرُ صحيح، وقد أوردهُ ابن الجوزي في الموْضوعات، كيف يكونُ هذا وقد ورد في فضل سعد ( اهتزَ العرشُ لموتِ سَعد) رواه البخاري، فمن اهتزَ العَرشُ لمَوتهِ كيفَ يليقُ بمقامِهِ أنْ يصيبَهُ ضغطةُ القبر، وما يُروى عنه من أنه كان لا يحترز من البول غير صحيح بدليل ما وردَ عن رسول الله من أنه وصف سعدًا بأنه شديدٌ في أمرِ الله، وورد عن عائشة أنها قالت في حق سعد: ( لم يكن في عشيرة بني الأشهل أفضل من سعد بن معاذ وأُسَيد بن حُضَير وعبّاد بن بشر) ويُرَد على من يقول بأن ضَمة القبرِ للأتقِياءِ تكونُ ضَمَّةَ حنانٍ كَضَمِّ الأمِّ لِولَدِها أن هذا يُعارِضُ ما ذكروا لأن النّجاةَ لا تكونُ إلا مِن العذاب، وقد أخبرَ الرسولُ عليه الصلاة والسلام عكسَ هذا كما جاءَ في الحديث أنَّ المؤمنَ التَّقِيَّ يُوَسَّعُ له في قبرِهِ سبعينَ ذِراعًا في سبعينَ ذراع. وَتُدفَعُ تلكَ الأحاديث المكذوبة بهذه الآية:( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) سورة يونس، فالولِيُّ لا يحصُلُ لهُ بعدَ مَوتِهِ خوفٌ ولا حُزْن، ولا يختَلِفُ اثنانِ في أنَّ ضَغطة القبرِ فيها خوفٌ وحزنٌ.

المعذبون في القبور

عذاب القبر يكون بالروح والجسد للكفار وبعض عصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة. وهناك معاصٍ جاءَ الخبرُ بتأكيد تعذيب مرتكبيها إلاّ من رحمَ الله كالغيبة والنميمة والتضمخ بالبول، روى البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عباس مرّ رسول الله ﷺ على قبرين فقال: ( يُعذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير، ثمَّ قال: بَلَى، كان أحدُهُمَا لا يستَتر من بَوْلِه، وكان الآخَرُ يَمشِي بالنَّميمَةِ) ثم دعَا بعسيب رَطب وهو غصنُ نَخل أخضر فشَقَهُ اثنين فغرسَ على هذا واحدًا وعلى هذا واحدًا ثم قال: ( لعَلهُ أن يخفَفُ عنهُما ما لم ييبسا) ، فهذا الحديث بعدَ كتاب الله حُجّة في إثبات عذاب القبر، الرسولُ ﷺ مرَ على القبرين فقال: ( يُعذبَانِ وما يُعذبَان في كبيرٍ) ثم قال: ( بلى ) أي بحسبِ ما يرىَ النّاس ليس ذنبهما شيئًا كبيرًا لكنهُ في الحقيقة ذنبٌ كبير لذلك قال: ( بلى) ومعنى قوله: ( وكان الآخَرُ يَمشِي بالنَّميمَةِ) وهي نقل الكلام بينَ اثنينِ للإفساد بينهما، كأن يقول لهذا فلانٌ قال عنكَ كذا ويقول للآخر: فلانٌ قال عنك كذا ليوقعَ بينهما الشحناء، ومعنى ما ذكره: »كان أحدُهُمَا لا يستَتر من بَوْلِه« أي كانَ يتلوثُ بالبول وهذا الفعل تلويث البدن بالبول من المُحرمات الكبائر فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( استَنْـزِهُوا من البولِ فإنّ عامةَ عذاب القبر منه) رواه الدارقطني، ومعناه: تحفظوا من البول لا تلوثوا ثيابكم وجلدكم به لأن أكثرَ عذاب القبر منه. هذان الأمران بحسبِ ما يَراهُ الناس ليسا ذنبين كبيرين لكنهُما في الحقيقة عند الله من الكبائر، فالرسول ﷺ رءاهما بحالةٍ شديدة وأنهما يُعذبان، وليس من شرط العذاب أن تمسَّ جسده النار، الله جعل عذابًا كثيرًا غير النار في القبر، ولا يقال إنّ الميت إذا كان يرى في القبر في هيئة النائم ولا يُرى عليه شىء من الاضطرابات ولا يصرخ فإذًا هو ليس في عذاب، فقد قال بعد الفقهاء: "عدمُ الوجدانِ لا يَستَلزِمُ عدمَ الوجود" فإذا نحنُ لم نر الشىء بأعيننا فليس معناه أنَّ هذا الشىءَ ليس موجودًا، فكثيرٌ من الأمور أخفاها الله عنّا، وبعضها يكشِفها الله لبعض عباده.

أيها القارئ لا بُدّ لنا من وقفة نتفكر فيها وفي القبر الذي صار إليه عدد كبير من أقاربنا وأحبابنا ومن نعرف ومن خالطنا وعاشرنا، وحتمًا سنصير إليه، فهل من كثير عمل قبل الوصول لذلك؟!

اللهمَّ أيقظ قلوبنا من الغفلة وأزِل عنها حُبَّ الدنيا ونسيَانَ الموت، ووفقنا اللهمَّ للعمل الذي يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين..آمين. والله أعلم وأحكم.