الغُسل الواجب

غَسلُ البدن وتنظيفُه سنةٌ من سُنن النبيّ صلى الله عليه وسلم كلما دَعت الحاجة أو لمناسبة  يُسنُ لها الإغتسال كالجمعة والعيد وغيرها. وهناك غُسلٌ للبدن واجبٌ شرعاً فعلهُ لأداء بعض العبادات، ألا وهوَ الغسل من الجنابة. وكلمة الجنَابة من جَنبَ وهو أنهُ يجتنبُ بعضَ الأمور في حالة مخصوصة، قال الله تعالى: وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ، ويقال رجل جُنُب وامرَأَة جُنُب، وقوم جُنُب، وَقد أجنبَ الرّجلُ إِذا أَصَابَته الْجَنَابَة. وتحصلُ الجنَابة بخروج المني وهو سائلٌ يخرج من ذكرِ الرجل ومن فرج الأنثى، ويميزُ بعلامات منها تدفقه بشدة شيئاً فشيئاً، وشعورٌ باللذةِ مع خروجهِ، وفتورٌ بالشهوة وإنكسارٍ بعد خروجه، وريحهُ الذي يُشبهُ ريحَ العجين رطباً، وريح بياضِ البيضِ بعدَ الجفاف، فمن خرجَ منه هذا سواءٌ كان في اليقظةِ أو في النوم فهو جُنبٌ. وكذا تحصلُ الجنابةُ بالجِماع وهو إدخالُ ذكرِ الرَجلِ في فرجِ المرأةِ ولو غابَ رأس الذكر الذي يسمى الَحشَفَة في فرج المرأة فهو جِماعٌ، وكذا لو لم يحصل الإنزال وكذا لو أدخلَ ذكرَهُ مُغلفاً بحائلٍ فهو جماعٌ وجنابة. 

ويلتحقُ بأحكام الجَنابة حصول الحيض من النساء والنِفّاسِ والولادة، المرأة أذا حاضت أي رأت الدمَ الذي يخرجُ من فروج النساء على سبيل الصحة والعادة، وكذا النفاس وهو الدمُ الخارج من الفرج بعد الولادة، وكذا ولو ولدت المرأة من غير بَللٍ لأنَّ خروج الولد منيٌ منعقدٌ في الأصل، فهذه الأمور لا سواها توجبُ على من حصلت منه الغُسلَ الواجبَ ويسمىَ الحدثَ الأكبر.

وهذا الغسل الواجب شرعاً له شرطان: النيةُ عندَ ملامَسةِ الماء، ينوي بقلبهِ رفعَ الحدثِ الأكبر أو الغُسلَ الواجب. والشرط الثاني أن يَصلَ الماءُ لكل البَدنِ والشعر والأظفار دونَ إستثناء مرةً واحدة بالماء المُطهِر. ومن أحدثَ أحدَ هذه الأمور حَرُمَ عليه الصلاة ولو نافلةٍ والطواف بالكعبة وحملُ المصحف ومسهُ وقراءةُ القرءانِ إلا ما كانَ بنيةٍ التحصين اي بنية دفع الأذي بآياتٍ من المصحف كقرأةِ آية الكرسي، أو سورة الفلقِ والناس أو نحوهما بنية الحفظ والسلامة من الأضرار، ويحرمُ على المُحدث أيضاً القعود في المسجد أي في المكان الموقوفِ الذي له حكم الوقف اوقفه المسلمون المُخصَص للصلاة فلا يضرُ وقفوه أو قعوده في حديقة المسجد، أو قاعة لم تخصص للصلاة بل لأمور أخرى فله أن يمكث فيها.

وزيادة على هذا كلهِ يحرمُ على المرأةِ الحائضِ والنُفساءِ الصيام أثناءَ وجود الدمِ وتمكينُ الزوجِ من الجماع قبلَ الغُسلِ ، فلا يجوز للمرأة الحائض أو النُفسَاءِ أن تَسمحَ او تمكنَ زوجها أن يجامعها أثناء وجود دم الحيض أو النفاس لقول الله تعالى: فَٱعْتَزِلُوا۟ ٱلنِّسَاءَ ، معناهُ لا تجامعوهنَّ هذا فقط ما يحرمُ عليهنَّ.

وما شاعَ على ألسِنة بعض الناس أنَّ بَدنَ المرأة زمنَ الحيض يبقى نجساً وأنها لا تضعُ يَدها في طبيخ ونحوه لأنها تُنجَسهُ فليس هذا من دين المسلمين بشيء..! بل هذا من أقاويل وخرافات اليهود. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنَّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة هجروها وأخرجوها من البيت فسألَ الصحابةُ النبيّ فأنزلَ الله تعالى هذه الآية: وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًۭى فَٱعْتَزِلُوا۟ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ  إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّ‌ بِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كلَ شَئٍ إلاّ النّكاح  ،أي لامسوهنَّ وكلوا مَعهنَّ وناموا بفراشهنَّ ولا تمنعوهنَّ من شئٍ إلا ما ذُكرَ في الحديث.

وقد ضربَ النبيّ صلى الله عليه وسلم المثل بنفسهِ في ذلك للمؤمنينَ والمؤمناتِ ففي الصحيحين عن أم سلمةَ زوجةُ رسولِ اللهِ قالت: بينما أنا في الخَمِيلَةِ (نوعٌ من الثياب) قالت: إذا حِضْتُ فانسَللتُ فأخذت ثياب حيضتي فقال لي رسول الله: أنفِسْتِ (أي حِضّتِ) قلتُ: نَعم، فدعَاني فاضجعَتُ معهُ في الخميلةِ، فانظر لفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من إدخال زوجتهِ وهي حائضٌ في الغطاء معه!! وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناوليني الخِمرَةَ (قطعة من القماش  بقدر ما يسجد عليه  الشخص) فقلت إني حائضٌ فقال: حَيضَتُكِ ليست في يدكِ معناهُ بَدنُكِ طاهرٌ لا علاقةَ لحيضكِ بسائرِ البدنِ، وفي الصحيحين أيضاً عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كنتُ أُرَجلُ (أُسَرِحْ) رأسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض، أي كان النبيُّ وهو في المسجد يُدني رأسَهُ من عائشة في حُجرَتها الملاصِقَةِ للمسجد فتُرَجِل له رأسهُ وهي حائض. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: كنتُ أشربُ من الإناءِ وأنا حائضٌ ثم أناول النبيّ فيضعُ فَاهُ على موضعِ فيَّ  ،أي كان صلى الله عليه وسلم يأخذ من يدها الإناء وهي في الحيض فيضعُ فمًهُ على الموضع الذي وضعتْ فمَهَا عليه فيشرب!! صلى الله عليه وسلم ما أعظم خلقه وما أحسن عشرته، وعن عائشة أيضًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئُ في حجري وأنا حائض فيقرأُ القرأن. وفي هذه الأحاديث أوضح الأدلة على أنَّ المرأةَ الحائض لها مزاولةُ كل الأعمال إلا ما وردَ في الشرعُ بالإمتناع عنه ، وباطل أيضاً ما أشيعَ عندَ البعضِ من قولهم أنهُ يحرمُ على الجنُبِ الخروج من البيت أو تأخير الغُسلِ أو لمسُ الطعامِ وكذلك لاينبغي تَسمية الجنب بالنِّسْ أو النَجِس أو الوَسِخ ونحوه.. أو قول البَعض أنَّ الملائكةَ تَلعَنُ الجُنْبِ إذا خرجَ من بيته أو ان كل شعرة في جسده تلعنه، فهذا كلهُ إفتراء يخالفُ ما جاءَ في صحيح البخاري في باب عَرَقِ الجُنب وأنَّ المُسلم لا يَنجس، بإسناده إلى أبي هريرة أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم لَقِيَهُ في بعض طُرق المدينة وهو جُنب (أي أبو هريرة) فانخَنَسَ منهُ فذهبَ فاغتسلَ ثمَّ جاء فقال: أينَ كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: كنتُ جُنباً فكرهتُ أن أجالسكَ وأنا على غيرِ طهارةٍ فقال: سبحانَ الله إنّ المسلم لا ينجس معنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرُ في بعض طرق المدينة فلقيهُ أبو هريرة وكان أي أبو هريرة جنباً فلم يتابعهُ في السير بل رجعَ عنهُ بعد أن سَلَمَ عليه وأخذ بيده إبتعدَ لأجل الجنابةِ ، فذهب فاغتسل فلما عاد بيّنَ لهُ الرسول أنّ المسلم إن كان جنباً وإن كان في غير حالة الجنابة ليس نجساً، معناهُ ما كان عليك بأسٌ لو مَاشيتَني مع كونكَ جنباً، وقد بيّنَ الرسول صلى الله عليه وسلّم لأبي هريرة أن المسلم لا يَنجُسْ ولم يقل له الملائكةُ تلعنكَ أو كلُ شعرةٍ في جسمكَ تلعنُكَ.  فالجنب إن لم يغتسل فوراً  يُسن لهُ أن يتوضأ ثمّ  يَنام وليس ذلك واجباً، وإن شاءَ نامَ كما هو من غير أن يتوضأ،  إنما الواجب عليه أن يغتسل لأجل الصلاة حتى لا يفوته أداؤها، والله أعلم وأحكم.