الحقد داء دفين

الحقدُ داءٌ دفين ومرض من أمراض القلوب يَسكنُ القلوب فيأجِجُها ناراً وبغضاً والعياذ بالله تعالى منه، والحقدُ هو إضمَارُ العداوة للمسلم مع العمل بمقتضاه تصميماً أو قولاً أو فعلاً بأن يَعزِمَ على إيذائه أو يقولَ قولاً يؤذيهُ أو يفعلَ فعلاً يؤذيه بغير حق وكلُ هذا نابعٌ من الحقد الذي في القلب والغِلّ في الصدر، وإنَّ من نِعم الله على عبده ومن علامات السعادة في هذه الدنيا أن يُعطيَّ الله العبد التوفيق بالإيمان وأن يجعلَ قلبه خالياً من الغِل والحقد على الناس، فإذا طَهُرَ قلبه من داءِ الغِل عاشَ هنيئاً مُرتاح البال في طمأنينة وسعة وراحةِ نفسٍ وقرةِ عينٍ، منصرفة همومه إلى ما يعودُ عليه بالنفع في دينهِ ودنياه، ولكنَّ الداءَ الدفين والبلاءَ الخفي أن يعيشَ قلبه ممتلأ كرهاً وغِلاً وحسداً وبغضاً لإخوانه المسلمين، فيعيشُ مهموماً تعِساً نكداً قلقاً، كلمّا رأى نعمة تفضّلَ الله بها على بعض عباده إزدادَ هماً وغماً وحزناً حقداً، يفرح للنكبات التى تنزل بالعباد وفي نفسه شهية ونية للانتقام وتمنى الضرر لغيره.

ذلكَ القلب المريض الذي ابتُليَّ بهذا الداءِ الخطير المُسمى الحقد وهو أيضاً نتاجُ الجهل وسوءٍ الظن في الغالب والرغبة بالإنتقام والعداوة والتشفي، وبسببه ينشأ الغِلُ والضغينة والإنتقام وهي مرادفات قريبة لمعنى الحقد، وسببُ الحقد في الكثير من الأحيان إنّ من آذاه شخصٌ بسبب من الأسباب وخالفه في رأيه بوجه من الوجوه أبغضهُ قلبهُ وغضبَ عليه ورسَخَ في قلبه الحقد عليه وعزمَ على التشفي والإنتقام، وقد يحدثُ الحقد بسبب خُبثِ النفس وفساد  في القلب المضغة التى صلاحها هو الاصل، ففي الحديث الشريف عنه صلوات الله وسلامه عليه: إنّ في الجَسدِ مُضغَةً إذا صَلُحت صَلحَ لها الجسدُ كُلهُ، وإذا فَسدت فَسَدَ لها الجسدُ كله ، ألا وهي القلب، فقلبٌ فيه حب الله والتوحيد لله، ويشعُ بنورِ (لا إله إلاّ الله) وبمعناها الراقي وهو أنَّ لا أحدَ يخلق إلا الله ولا يستحق العبادة أحدٌ إلا الله تعالى الواحد الذي لاشريك له الصمدُ الذي لايحتاجُ لأحدٍ ولا يشبه شىءٌ ولاهوَ على شيء أو من شىء أو في شىء تعالى الله عن ذلك كله علواً  كبيرا، فهذا القلب مليءٌ بالخير خالٍ من الغل والضغينة، وصاحبُه في راحة بالٍ وانبساط وانشراح صدر.

وهناك قلبٌ نسأل الله المعافاة مَليءٌ بغلٍّ وحقدٍ وكراهية للخير وتمنِّي زوالِ النعمِ عن الغير، فهوَ يَعيشُ في قلقٍ وحَيرَةٍ وهمٍّ وتعاسَةٍ وضيق صدر، ولجميل هذه الصفة أخبرنا الله تعالى أنّ أهل الجنّة مطهرون مبعدون عن هذه الصفة فقال فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ، فالجنّة دارُ الطيبين الأبرار، أهلها مُبَرؤونَ من كل هذه الأخلاق الذميمة ومطَهَّرونَ من داءِ الغِل، فهي دار النعمة والحياة الدائمة والنعيم المستمر الذي لا ينقطع أبدا، والله تعالى مَدحَ أصحاب القلوب الصافية التى لا تحمل الغِلّ لإخوانها بأن دعائهم هو كما في قوله تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ، هكذا فليكنِ المُسلم على هذا الخُلق الراقي، وليسَ هناك أحلى وأهنىء للمرءِ ولا أبعدَ لهمُومهِ من أن يعيش سليم القلب من وساوس النفس وثورانِ الأحقاد والرغبة في الإنتقام ، إذا رأىَ نعمةً تنساق لأحدٍ رضيَ بها وأحسَّ فضلَ الله فيها،  وإذا رأىَ ضرراً يلحقُ أحداً دعا الله أنَ يفرجَ ويغفر ذنبه ، بذلكَ يحيا المسلم  مرتاح النفس مطمئن البال راضياً  مستريحاً من نزعات الحقد والغِلِ الدفين في القلوب ، متجنباً لهذه المعصية التى من أعمال  ومعاصي القلوب.

فعالج نفسكَ وقلبكَ بتنقية سريرتك، وتطهيرَ قلبك، وابتعد عن رذائل الأعمال والأخلاق والأقوال، وإنّ رأيت نعمة أنعمَ الله بها على غيرك إسأل الله من فضله العظيم، فالفضلُ فضلُ الله الكريم والنِعَمُ منَّ الله تعالى يُعطيها من يشاء قال تعالى:وما بكمّ من نِعمةٍ فمِنَ الله، واعلم أنَّ الله حكيمٌ عليم، فيما يُعطي ويمنع و فيما يقضي ويقدّر، وأجعل الصَفحَ من عاداتك وشيمتك، وتذكر كيفَ صَفَحَ وعَفَا الأنبياء والصالحون، إقرأ في كتاب الله مع تدبُر وتمّعن كيفَ عفىَ الصديقُ نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام عن إخوته بعدما نالوا منه وأبعدوه عن أبواه السنينَ الطِوال وأرادوا به الضياع والهلاكَ والموت، أنظر كيف عاملهم وسَمَحَ وعَفَا عنهم مع القدرة على البّطش بهم والضرر، وهوَ من هوَ وزيرُ المَلك والقائم على خزانة الملك ، فعندما آلت الأمور إليه، كانَ باستطاعته أن ينتقم من إخوته الذين كادوا له في أول الأمر وأرادوا به هلاكاً، ولكنَّ سموَّ نفسه وترفعه عن الإنتقام وإحتساب الأجر عند الله تعالى جعلهُ يأبىَ أنّ ينغمِسَ فيما يقع به الكثيرين من الانتقام، فعندما أعترفَ إخوانه بخطئهم بقولهم كما أخبر الله عنهم في القرءان الكريم بقوله: تَٱللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَـٰطِئِينَ أجابهم يوسف عليه السلام بهذا الجواب المُفعَم بالعطفِ الأخوي والمسامحة كما أخبر الله عنه بقوله تعالى: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُم.

فتدبَّر أيها العاقل هذه المعاني وانظر كيف عفا نبينا عن الذين أخرجوه من بلده ونكّلوا بأصحابه وافتروا عليه وآذوه الأذى الشديد بقوله عليه السلام يوم فتح مكة" إذهبوا أنتم الطُلقاء"! فكيف بأهلك وإخوانك وأرحامك ومن لم يُريد قتلكَ ولا فعل معك إلا القليل !؟ بل رُبَ كلمة منه أو تصرف أزعجكَ  فقد يحمل البعض حقداً على أخيه سنواتٍ طِوال بل ويحاسبه على كلمة بعد أكثر من عشرين سنة وأكثر! فوالله ما بَلغَ الصالحون منازلَ الأبرار إلا مع صفاء قلوبهم ولأنَّ قلوبهم مشغولة بأهمّ من جمع عيوب الناس ودفنها في قلوبهم، بل همّ مشغولونَ بنفوسهم ونجاتهم في الآخرة، فلنتقي الله في نفوسنا ولنفكّر في آخرتنا وفي موقفنا يوم الحساب والعرض!

ولنحذر من غِلٍ على مسلم أو إضمار مضرة له، وليكن تعاملنا مع إخواننا المؤمنين أن نحبَّ الخير لهم ونفرح بخيرٍ يصل إليهم ولا نحقد عليهم ولا نكرَهُ خيراً ساقهُ اللهُ تعالى إليهم بتقديره ومشيئته وخلقه، فالرازق هو الله رب العالمين، والمُعطي والنّافع والضار هوَّ الله رب العالمين، فلا إعتراض على قسمة الله وعطائه ولا إعتراض على ذلك أبداً بل تسليم ورضا بقدر الله، لأنكَ تعلم حقاً أنّ الله أحكمُ وأعدل وأرحم، فذاكَ قضاؤه وهذا فضله وعدله وحكمته، واسأله تبارك وتعالى من فضله وكرمه، إذ أعطى غيرك أن يُعطيك من فضله، وارضى بقضائه، وكن متوكلاً على الله واثقاً بالله، مفوِّضاً أمرَك إليه، ودعْ عنكَ الإشتغال بالآخرين وما في أيدهم، لا تشغل نفسَك إلا بما ينفعكَ ويعنيك فمن إشتغل بما لايُعنيه فاته ما يعنيه ، ومن حُسن إسلامِ المَرءْ تركهُ ما لا يُعنيه، والشيطان ربمّا يشوشُ على المسلم بإيقاع الحقد في القلب وإيقادِ نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت فرحَ الشيطان بتفتيت روابط المحبة بين الناس ، وذلك أن الشرَّ إذا تمكن من الأفئدة ( الحاقدة ) تنافرَ ودُها وقستْ واسودَت واغتمتْ وأظلمت ، فالإفتراء على الأبرياء جريمة يحركها الكره الشديد( الحقد)، وقد تكون الغيبة متنفَّسُ لحاقد وصدر قلَّ فيه الرحمة والصفاء والشفقة، ومن سوء الظن وتتبع العوارت وتَعيِّرِ الناس بعاهاتهم أو خصائصهم البدنية أو النفسية وكشفِ ما سُتِرَ من عيوبهم وفضائحهم  كل هذا قد يكون من نِتاج قلبٍ حاقد الغلُ غلب عليه.

وقد حثَّ نبينا صلوات الله وسلامه على حب الخير للمؤمنين كحب النفس، ففي الحديث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمنُ أحدُكُم حتى يُحبَ لأخيه ما يُحبُ لنفسِه، ومن أعظم ما يُحبه المرءُ لأخيه نجاتهُ يومَ القيامة وفوزه بالجنة، وفي كتاب الله الكثير من الحَثِ على العفو وعدم حملِ الأحقاد في القلوب كقول الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، اللهمَّ نسألك أنّ تُطهرَ قلوبنا من الغِلّ والحسَد يا أرحمَ الراحمين.