الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .

قتل النفس التى حرم الله جريمة وعدوان آثم و كبيرة من كبائر الذنوب فاعلها ملعون ومستحلها مكذب للشريعة، وتحريم القتل جاء في كل شرائع الأنبياء فلقد اتفقت الشرائع السماوية على وجوب المحافظة على الضروريات ومنها حفظ الدين وحفظ النفس، ففي دين الإسلام العناية الفائقة بحفظ النفس فحرم الله تعالى قتل الإنسان بغير حق، وحرم الله الإنتحار، وحرم الله إزهاق أرواح الأجنة في الأرحام وإجهاضها ،كل ذلك حرمه الله تعالى وشدد في تحريمه قال الله تعالى: ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا )، وقد ذكر الله تعالى في القرأن جريمة القتل بعد الإشراك به لعظيم الذنب عنده فقال تعالى: ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)، وفي الحديث الشريف أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (( اجتَنبوا السَّبعَ الموبقاتِ . قالوا : يا رسولَ اللهِ : وما هنَّ ؟ قال : الشِّركُ باللهِ ، والسِّحرُ ، وقتلُ النَّفسِ الَّتي حرَّم اللهُ إلَّا بالحقِّ ،.. الحديث وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل: أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ: " أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ". قَالَ ثُمَّ أَيٌّ، قَالَ: “أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ”. قال العلامة الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله : منَ المحرماتِ الكبائرِ قتلُ الإنسان نفسَ غيره بغير الحق أو قتلَ نفسهُ لكنهُ لا يكفرُ كما أنه لا يكفرُ قاتلُ نفسِ غيرهِ فقد روى البخاري أن رسول الله قال: "من قتلَ نفسهُ بشئٍ عُذِّبَ بهِ في جهنم"، وقولُ الجُهالِ فيمن قتلَ نفسهُ إنه كافرٌ باطلٌ. ومن الدليلِ على أن المنتحر لا يكونُ كافرًا لمجردِ ذلك ما رواهُ مسلمٌ وغيره أن رجلاً مهاجرًا مرضَ مرضًا شديدًا جزِعَ منهُ أي لم يصبر فقطعَ براجِمَه وهي رؤوس السُّلَامَيَات "عظام الأصابع" بحديدةٍ فصار الدم يشخَبُ أي يسيلُ فماتَ، ثم رءاهُ رفيقهُ الذي هاجرَ معهُ في المنامِ بهيأةٍ حسنةٍ ورءاهُ مغطيًّا يديه فقال له ما فعلَ بكَ ربكَ، قالَ غفرَ لي بهجرتي إلى نبيه، قال له فما ليديكَ، قال قيلَ لي إنّا لا نُصلحُ منكَ ما أفسدتَ. ثم هذا الرجلُ قصَّ على النبي الرؤيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ وليَديهِ فاغفر". فوجهُ الدليلِ في هذا الحديثِ أنّ الرسولَ صدّقَ الصحابيّ الذي قصَّ عليهِ هذه الرؤيا وأقرَّ رؤياه هذه، وفي ذلك دليلٌ على أن الله غفرَ له لقولهِ عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ وليَديهِ اغفِر". فإن قيل أليسَ روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتلَ نفسهُ بحديدةٍ فحديدتهُ في يدهِ يَجَأُ بها في بطنهِ في نارِ جهنمَ خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن تردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسهُ فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا". فالجوابُ أنّ هذا الحديثَ يُحملُ على الكافر، فالكافرُ يُعذَّبُ يومَ القيامةِ على كفرهِ وعلى معاصيهِ. فهذا الكافرُ الذي قتلَ نفسهُ بتلكَ الحديدةِ يُعذَّبُ بتلكَ الحديدةِ في نار جهنمَ على الدوامِ بطعنِ نفسهِ بتلكَ الحديدةِ في بطنه، وكذلك الكافرُ الذي قتلَ نفسهُ بأن رمى بنفسهِ من شاهقِ جبل حتى ماتَ بهذا التردي يُفعلُ به في جهنمَ مثلُ ما فعل بنفسهِ. أما المسلمُ الذي قتلَ نفسهُ ولم يعفُ الله عنه يُعذَّبُ في نار جهنم بما قتلَ به نفسه برهةً ثم يخرج من النار ويدخلُ الجنة. وأما حديثُ البخاري "من قتلَ نفسهُ بشئٍ عُذِّبَ بهِ في نارِ جهنَم" فهذا يشملُ المنتحر المسلم والمنتحر الكافر لأنه لم يردْ فيه "خالدًا مخلدًا فيها أبدًا" .فإن قيلَ كيفَ يكون الانتحارُ حرامًا ويونُسُ ألقى بنفسهِ في البحرِ وسيدنا محمد روى البخاري عنه أنه حينَ فترَ الوحيُ عنه في أوائلِ البعثةِ همَّ بأن يُلقي بنفسهِ من ذروةِ الجبلِ فالجواب أن يونسَ عندما ألقى بنفسهِ في البحر كان يعتقد أنه لا يصيبهُ هلاكٌ بالغرقِ وأن سيدنا محمدًا لم يكن مرادهُ بذلكَ إلا تخفيفَ شدةِ الوجدِ الذي حصلَ له من إبطاءِ الوحيِ عليه لا الإنتحار، فإنه حصلَ لكثيرٍ من الأولياءِ أنهم مشوا على الماء ولم يغرقوا وطاروا في الهواء ولم يقعوا، فمن حملَ ما وردَ في البخاري من هذه القصة على أنّ الرسول أراد أن ينتحرَ فقد كفر، وكذلك لا يكفر من قتل مسلمًا مع اعتقادهِ حُرمةَ ذلك ويدلُّ على ذلك قصةُّ الإسرائيلي الذي كان على الإسلام قبل بعثةِ سيدنا محمد والذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي أنزلهُ الله عليه وفيها أنّ هذا الإسرائيليَّ كانَ قتلَ مائةَ نفسٍ ظلمًا ثم أرادَ التوبةَ فقال له عالمٌ من علماء ذلك العصرِ لما سألهُ هل لي من توبةٍ، قال له ومَن يَحولُ بينكَ وبينَ التوبةِ، اذهبْ إلى أرضِ كذا فإنّ بها قومًا صالحينَ فندمَ على ما فعلَ من قتلهِ تلكَ الأنفسِ المائة ولم يكن يعرفُ أقرباءَ المقتولين، ففي هذه الحال يكفيهِ الندمُ والعزمُ على أن لا يعودَ للذنب، ثم توجهَ إلى تلكَ الأرضِ فأدركهُ الموتُ في منتصفِ الطريقِ فجاءَ ملائكةُ العذاب [لأنه لم يكن بلغهم أنه تاب] وملائكةُ الرحمة، هؤلاء يريدونَ أن يأخذوهُ وهؤلاء يريدون أن يأخذوهُ فاختصموا، فأرسلَ الله ملكًا بصفةِ رجل من بني ءادم فحكمَ بينهم، قال لهم قيسوا ما بينَ الأرضَينِ فإلى أيهما وجدتموهُ أقربَ فهو لهم فقاسوا فوجدوا هذا الشخصَ أقربَ إلى الأرضِ التي هو ذاهبٌ إليها بشبرٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فغفرَ الله له"، فأخذتهُ ملائكة الرحمة. وأما قوله تعالى:(( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ))، [فقد قيلَ فيه عدةُ تأويلات أحدها أن المرادَ بالآية الخلودُ النسبي لأنه لم يقل خالدًا فيها أبدًا ، والثاني أن المرادَ بهذه الآية هو الذي يقتلُ المؤمنَ مُستحلاً قتلهُ بغير حق فهذا يكفر، والثالثُ أنّ المرادَ بهذه الآيةِ من قتلَ المؤمنَ لإيمانهِ فهذا يكفرُ أيضًا،أنتهى... وقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ". وملحق بهذا حرمة قتل الجنين الذي في بطن أمه بعد نَفخ الروح أي بعد تمام مئة وعشرين يوماً من الحمل فإن قتله إزهاق روح محرم بالإجماع ولو ادعى البعض أن الولد سيكون مشوهاً أو أنَّ الأمَ تُصاب بمرض بسببه، فليس لهم قتله كما يحرم قتل الكبير الذي يؤذي أمه أو أصيب بداءٍ عُضالٍ، فالحذر ممن يفتون بقتل الأجنةِ مخالفينَ النصوص وإجماع المسلمين على حرمة إزهاق الروح ولو في الأرحام . وكذلك يحذر مما شاع في أيامنا من قتل الشخص نفسه عمداً لضيق أصابه وقد يسمونه شهيداً زوراً وبهتاناً، قال الله تعالى:( وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )، فلم يقلُ أحدٌ من علماء المسلمين المعتبرين أنه يجوِّز لمسلم قتلُ نفسه بسببِ فقره أو إعتراضًا على حكومتهِ لظلمِها، إنّما هو قتلُ نَفسٍ بغَيرِ حقٍّ عَمدًا ولا يخرُجُ عن كَونِهِ إنتِحَارًا مُحرّماً لا عُذرَ له في شَرِع الله تعالى، وفاعله يستحق العذاب في الآخرة إن لم يعف الله عنه . وحُكمُ مَن استَحسَنَ هذا الفِعلَ أو استَحَلّهُ أنّه كَذّبَ القُرءَانَ والحَدِيثَ قال الإمام النَسَفىّ " وَرَدّ النصوص ُكفرٌ"، ونفس المسلم عظيمةُ الحُرمَةِ عندَ الله تعالى، فلا يجوزُ للإنسانِ أن يُزِهِقَ نفسَهُ لأي سَبَبٍ كانَ، قال الله تعالى: " وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ "، وقتل النفس بغير حق على الأطلاق فيه الذنب و العقوبة، أما في الآخرة فقد ذكر الله في القرأن جزاء القاتل فقال تعالى: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، وأما عقوبتة في الدنيا فهي القصاص قال الله تعالى: (( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ))، وهذه وظيفة الحاكم أو الخليفة ولا يوجد في أيامنا هذا ، فدماء المسلمين عند الله مصونة محرمة لا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يسفكها أو ينتهكها إلا بحق شرعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ" ،والقتل هي أول جريمة ارتكبت على وجه الأرض في عهد نبي الله آدم عليه السلام عندما قتل ولده قابيل أخاهُ هابيل، قال الله تعالى: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا ، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ)، وإنَّ مما يحزن النفس ويملأ القلب أسفًا هذه الأيام ما نسمعه من مجازر وقتل واعتداء وسفك للدماء، وإزاهاقٍ للأرواح البريئة، أو إنتحار، بوسائل مروعة وأساليب فظيعة حرض عليها الشيطان وزينها للقتلة الظلمة الفسقة قال الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)، وقال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )، ومن قتل نفسا ًظلماً فعليه الإسراع بالتوبة إلى الله تعالى والندم على هذه الجريمة الكبيرة ودفع الديّة المنصوص عليها شرعاً لأهل القتيل وهي على تفصيل واسع في الفقة..، وفي القتل مطلقاً الكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين لقول الله تعالى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا )، فالواجب على من قتل خطأً أو شبه الخطأ الديّة والكفارة إلا أن يسمحوا أهل القتيل عن الدية، فتبقى الكفارة في ذمته، إن استطاع العتق أعتق، فإن لم يستطيع العتقَ صامَ شهرين متتابعين بنص القرآن العظيم قال الله تعالى:(( فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )). والله تعالى أعلم وأحكم.