قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ

﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾، [1]

أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام بأنه سيخلق بشراً فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله تعالى. وكان خَلقُ آدم عليه السلام من الطين سويَ على هيئة إنسان جميل الخلقة طويل القامة معتدل الأطراف، ثم خلق الله فيه الروح بقدرته، فإذا هو إنسانٌ من لحم ودم وعصب يتحرك ويعقل ويمشي ويتكلم، ثم أمرَ الله ملائكته الذين كانوا في الجنة مع آدم عليه السلام أن يسجدوا لآدم سجود تكريم واحترام وتشريف لهذا المخلوق المكرم عند الله تبارك وتعالى ، وليس سجود عبادة لغير الله لأنَّ الله لا يأمرُ أحدًا أن يتوجه بالعبادة إلى غيره فكان الأمر للتشريف والتكريم والتحية والاحترام ، قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) فسجد الملائكة كلهم لآدم عليه السلام امتثالا لأمر الله ، باستثناء إبليس الذي أبىَ أن يسجد استكبارا وعنادًا وكان الأمرُ شَمله مع الملائكة لأنه حينها كان يعبد الله مع الملائكة فكان معنى (وإذا قلنا للملائكة)، أي ومن معهم فشمله الأمر (ويسمى استثناء من غير الجنس)، لكنه أبى واستكبرَ واعترضَ على أمرِ الله وكفر، ولقد سألهُ الله تعالى وهو أعلمُ به عن السبب الذي منعهُ من السجود لآدم بعد أن أمرهُ به، فاحتجَ بأنه أفضل منه تكوينًا فهو قد خُلق من نار، بينما آدم خلق من طين، والنار في رأيه أفضل من الطين، وأبدى غاية التكبر والاعتراض، عندها طرده الله من الجنة، ولعنه لعنة دائمة إلى يوم القيامة بسبب تكبره وكفره قال الله تعالى: ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ). و قال تعالى في توبيخ إبليس: (ما مَنعكَ أن تَسجُدَ لِمَا خَلقتُ بيَديَّ)، أي بعنايتي وحفظي، فيجوز أن يُقال المراد باليدين هنا العناية والحفظ . فقوله تعالى: "بيديَّ" يدل على أنَّ ءادم خُلِقَ مشرفاً مُكرّماً من غير ان ينتقل بالأصلاب ولا من نطفة ونحو ذلك من العناية، ولا يجوز أن نحمل كلمة "بيديَّ" على معنى الجارحة كأيدي المخلوقات، ولو كانت له جارحةٌ لكان مثلنا ولو كان مثلنا لما استطاع أن يخلقنا، لذلك نقول كما قال أهل التفسير: أي خلقته بعنايتي بحفظي معناه على وجه الإكرام والتعظيم له، أي على وجه الخصوصية خلق ءادم أي أراد له المقام العالي والخير العظيم.. فيتبينَ أنَّ الله تعالى أمرَ الملائكة الكرام أن يسجدوا تحية وتعظيم ولبيان فضل النبين على الملائكة عند الله تعالى، وآدم عليه الصلاة والسلام أولُ البشر وهو أول النبينَ وأولُ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فكان هذا من السجود الجائز غير المحرم. وجعل الله أبا الجن أبليس وذكر الله في القرءان أنَّ الجنَّ خلقوا قبل آدم عليه السلام وكان أبليس يعيش في الجنة مع الملائكة، ولما خلق الله آدم عليه السلام وأمرَ الله الملائكة ومن معهم أن يسجدوا لآدم سجودَ تحية واحتراماً وتعظيماً لا سجود عبادة، فسجد الملائكة كلهم طاعة لله رب العالمين إلا إبليس تكبرَ وعصى واعترضَ ولم يسجد لآدم ولم يُنفذْ أمر الله تعالى للملائكةَ ومن معهم بالسجود لسيدنا آدم عليه السلام، والملائكة كما وصفهم الله تعالى:(لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). وأما إبليس فقد استكبر واعترضَ على الله ولم يَمْتَثِل لأمره وقال الله تعالى إخبار عنه في القرءان:(أنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، فكفرَ وظهرَ منه ما قد سبق في علم الله تعالى ومشيئته من كفره واعتراضِه باختياره، ثم بعد أن عرفَ إبليس اللعين أنه ملعون طلبَ من الله أن يُنظِرُهُ أي يؤخرهُ إلى يوم البعث أي يوم الخروج من القبور ولكنَّ الله لم يجبهُ إلى ذلك بل أخره إلى النفخة الأولى ليذوق الموت الذي حكم الله به على خلقه، قال تعالى مخبرًا عن قول إبليس:(قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ). ومعنى قوله تعالى:(كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)، أي إلى زمن نفخة الإهلاك وهي نفخة إسرافيل في البوق فيموتُ كل حي من الإنس والجن من هَولِ ذلك الصوت، ثم إنّ إبليس اللعين لما اعترضَ وكفرَ أمرهُ الله بالخروج من الجنّة، لكنه لم يخرج منها فورًا بل أقام فيها مُدّة ليوسوسَ لآدمَ وحواء بعصيان الله تعالى ليكون سببًا في إخراجهما من الجنة، قال تعالى:(فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ). وقد كانَ إبليس قبل ذلك الوقت مسلمًا مؤمنًا من الجنّ يعبدُ الله مع الملائكة، وذلك قبل أن يكفر ويعترض على الله، وليس صحيحًا أنه كان طاووس الملائكة ولا رئيسًا لهم كما يزعم البعض، قال الحسن البصري: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط، ويدل على ذلك قوله تعالى:(وإذ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ، كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، وقوله تعالى:(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)، فلو كان من الملائكة لم يعص ربه لأن الله تعالى وصفهم في القرءان الكريم بقوله:(لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.)، ومما يدل أيضًا على أنَّ إبليس ليس من الملائكة بل هو من الجن قوله تعالى:( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، ففي هذه الآية دليل على أن إبليس مخلوق من نار، بخلاف الملائكة فإنهم خلقوا من نور كما جاء في الحديث. ومن ذلك الوقت سُمي بأبليس من البَلسِ وهو العصيان والعنادُ والتكبر ويسمىَ بالشيطان ثم تكاثر وله ذرية واتباع من الجن الكفار يُسمونَ الشياطين ومن بعد أن طردهُ الله من الجنة وأهبط إلى الأرض وهذ المخلوق اللعين يُناصب ابن آدم العداء ولا سيما عباد الله المؤمنين وقد أمرنا الله تعالى أن نتخذه عدواً بقوله تعالى:(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، وإبليس عليه من الله اللعنة، وبالله نستعيذ منه ومن ذريته، ابتلى الله به عباده، ليبين الله للناس الطائعين من العصاة، وهذا المخلوق الشرير الذي يدعو إلى كل فاحشة وإثم فالله جعل له قدرة كبيرة في إغواء البشر، وجعل الله للمؤمن سلاحاً لدفع شره، ومعونةَ على دحره، فقد أقدّر اللهُ إبليس على الوسوسة والقذف بالهواجس الرديئة إلى القلب البشر، ونفث سموم الخواطر والوساوس ليحركهم على المعاصي، كما أعطى الله إبليس اللعين القدرة على تزيين المعصية، قال الله تعالى:(وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ) ألا ترى كيف ان الذنوب البشعة القذرة يفعلها العصاة وهم يظنونها لا شيء...! كما أقدر الله إبليس لعنه الله على تهيج النفوس للشر والدفع إلى الغضب، وأقدر الله هذا العدو على الإغواء إلى القلب، وأقدره على الغواية بمشيئة الله وعلمه خلقه، وجميع ما أخبر الله تعالى به من كيد الشيطان، فهو كيدٌ ضعيف، يبطل ويضمحل، ويتلاشى بكثرة ذكر الله والازدياد من علوم الدين التي هي سلاح في وجه الشيطان الرجيم جاء في الاثر:" لفقيهٌ واحد أشدُ على الشيطان من ألف عابد" لأن المؤمن المتفقه والمتعلم لأمور الشريعة يعرفُ مكائد الشيطان ومداخله ويردها بنور العلم الصافي وإن كان كيد الشيطان على مثل أولئك ضعيفاُ، قال الله تعالى:(إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَـٰنِ كَانَ ضَعِيفاً). قال الله تعالى:(وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ / إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ). القول على الله بلا علم خطوةٌ من خطوات الشيطان، وهو الذي أفسد ابليس به العقائد، وقد يجرهم في خطواتهم إلى الإفك والإثم، والتزوير والكذب، حتى وصلَ الأمر في أيامنا بالبعض أن يدعي أن أبليس اللعين ليسَ بكافر وانه مؤمن...!! ولا ندري قد يُطالعنا هذا المدعي بأنّ يقول عن ابليس "عليه السلام"!! سبحانكَ هذا بُهتانٌ عظيم، فأنّ يَصِلَ الأمرُ بترك تكفير ابليس اللعين الرجيم بعدَ ما جاءَ في القرءان من لعنِهِ ووصفِه بشتى صفات العداوة واللعن والكفر، إنها لكبيرة وعظيمة ،! والغضب بغير حق وقت خطير لوسوسة الشيطان. فكم بالغضب حركَ الشيطان النفس للكفر ألا ترى الكثير ممن يغضبون كيف يجرؤن على شتم الله والدين والملائكة أو التقول على الله بلا علم مما يؤدي لفساد كبير والعياذ بالله تعالى من الكفر، وكم من قتل وجريمة كان سببها الغضب وكل ذلك من وساوس الشيطان وعدم الاحتراز من مكائده، ومما يدفع به المسلم كيدَ هذا العدو المبين الاستعاذة بالله تعالى العظيم، والاستعاذة معناها اللجؤ والاعتصام والاستجارة بالله تعالى، قال الله تعالى:( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيم)، (وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ). وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استّبَ عنَدهُ رجلانِ فاحمرّ وجهُ أحدُهُما وانتفخت أوداجُه، فقالَ عليه الصلاة والسلام: إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهبَ عنهُ ما يَجِدُ؛ أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم. ومما يدفعُ شر الشيطان كثرة قراءة القران الكريم وترديد آية الكرسي، وقُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين، دبر كل صلاة وقول" أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم". ومما يدفعُ كيدَ الشيطان أيضاً مداومة ذكرِ الله بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار والدعاء، ومما يدفعُ الله به شرَ الشيطان أيضاً حضور مجالس الخير والعلم، والبعد عن مجالس اللهو الباطل والغفلة، فإنَّ مجالس الباطل والغفلة يحضرها الشيطان وأعوانه، ويوقع فيها العداوة والبغضاء والشقاء، وقد يتعدى الشر إلى ارتكاب الفواحش من شرب الخمر والقتل والزنا وكبائر الإثم. وأولُ شيء وأكثر ما يحرض الشيطان ابنُ آدم إليه الكفر، فإن استجاب له قاده إلى كل شر وهلكة في الدنيا والآخرة. فإنّ لم يستجب له في الكفر فإن لم يقدر دعاه إلى كبائر الذنوب، ثم إلى الإصرار على الصغائر إن لم يقدر على دعوته إلى الكبائر. فإن لم يقدر على ذلك دعاه إلى أن يشتغل بما فيه الغفلة عن الخير، وأن يشتغل بما لا يعنيه. ومما ينجي أولاً وآخراً من شر هذا الشيطان هو توحيد الله ودوام الذكر أن الله عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء وأنه تعالى معنا بعلمه لا نغيب عن علم الله تعالى طرفة عين، وأنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، والتوكل على الله، وإخلاص العبادة كلها لله وحده، قال الله تعالى:(إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ)،


[1] سورة ص: 75.