المال والبنون

المال والبنون

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ سيدِ المرسلينَ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ أما بعدُ،  يقولُ اللهُ تعالى المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدُّنيا والباقياتُ الصَّالحاتُ خيرٌ عندَ ربكَ الاية 46، سورة الكهف.

معنى الآيةِ المالُ والأبناءُ زينةُ الحياةِ الدُّنيا الزائِلةِ أما الباقياتُ الصَّالحاتُ أفضلُ عندَ اللهِ تعالى، والباقياتُ الصَّالحاتُ هي: الحسناتُ مثل الصلاةُ والصِيامُ والحجُ والزكاةُ والذِّكرُ وقراءةُ القرءانِ والصَّدقةُ ونحوُ ذلك، وإنما قال اللهُ تعالى: والباقياتُ، لأن ثوابَ الحسناتِ دائمٌ لا ينقطعُ لأنَّ الآخِرَةَ لا نهايةَ لها، حياةٌ ليسَ بعدَها موتٌ وصِحةٌ ليس بعدَها مرضٌ، وشبابٌ ليسَ بَعدَهُ هَرمٌ وراحةٌ ليس بعدَهَا تعبٌ.

وأمَّا زينةُ الحياةِ الدُّنيا فالأولادُ خُلِقُوا للموتِ، نهايتُهُمُ الموتُ. وأمَّا الحسناتُ فهي باقيةٌ وأخَفُّ الحسناتِ على اللسانِ الذِّكْرُ وأجْرُهُ عظيمٌ ومِنَ الذِّكْرِ سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ، المُسلِمُ إذا قالَ سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ تُغْرَسُ لَهُ في الجَنَّةِ شَجَرَةٌ، نَخْلَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فَمَنْ قالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائةَ مَرَّةٍ تُغْرَسُ لهُ مِائَةُ نَخْلَةٍ، وَمَنْ قالَ ألفاً فَألْفُ شَجَرَةٍ وَمَنْ قَالَ أكْثَرَ مِن ذلكَ فأكثَرُ مِن ذلِكَ. ثُمَّ نَخْلُ الجَنَّةِ ليس كنخْلِ الدُّنيا في الطَّعْمِ وَاللونِ وَالرَّائِحَةِ إنَّما الإسمُ مُشْتَرَكٌ، هَذا يُقالُ لهُ نخلٌ وَهَذا يُقالُ لهُ نخلٌ، ثُمَّ هذهِ الشَّجَرَةُ أبدِيَّةٌ لا تَيْبَسُ فَتُقْلَعُ بلْ هي دائِمَةٌ رَطْبَةٌ مُثْمِرَةٌ.

وَالصَّدَقَةُ من جُمْلَةِ الحَسَنَاتِ فَمَنْ تَصَدّقَ من مالٍ حلالٍ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ لِوَجْهِ اللهِ ليسَ لِيُقَالَ عنهُ فلانٌ فَاعِلُ خَيْرٍ ليسَ لِيَمْدَحَهُ الناسُ فَلَهُ أجْرٌ عظيمٌ، فَالصَّدَقَةُ إنْ كانت مِنْ مَالٍ حَلالٍ وَبِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ ليسَ لِطَلَبِ مَدْحِ الناسِ بِأن يُقَالَ لهُ فلانٌ كريمٌ فلانٌ سَخِيٌّ فُلانٌ فاعِلُ خَيْرٍ، بلْ كانت بِنِيَّةِ أنَّ اللهَ يُحِبُّ الصَّدَقَةَ فمَن تصَدَّقَ على هذا الوَجْهِ بِصَدَقَةٍ مهْما كانت صَغِيرَةً فهي عندَ اللهِ كَبِيرةٌ، على حَسَبِ حُسْنِ النِيَّةِ وَكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْثِراً شديدَ الإيثَارِ للآخِرَةِ يَعْظُمُ ثَوَابُها فَمَنْ تَصَدَّقَ مِنْ مالٍ قَليلٍ لَهُ فَدَفَعَ نِصْفَ مَالِهِ وَأبْقى النِّصْفَ الآخَرَ لِنَفْسِهِ هذا عِنْدَ اللهِ أجْرُهُ أعْظَمُ مِنَ الرَّجُلِ الذي لهُ مالٌ كثيرٌ وَتَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ، مِثَالُ ذلكَ ما جَاءَ في حديثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّم: سَبَقَ دِرْهَمٌ مائَةَ ألْفِ دِرْهَمٍ، قيلَ كيْفَ ذلِكَ يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَجُلٌ لهُ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ بِأحَدِهِمَا وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِمائَةِ ألفِ دِرْهَمٍ مِنْ عُرْضِ مَالهِ أيْ مِن مالِهِ الكَثيرِ دَفَعَ مِائَةَ ألْفِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ كَثيراً لِنَفْسِهِ، هذِهِ المِائَةُ ألْفٍ بِالنسبةِ لِكَثْرَةِ مَالِهِ قليلٌ، فَثَوابُ الشَّخْصِ الذي تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَتَرَكَ لِنَفْسِهِ دِرْهَماً واحِداً أعْظَمُ عِندَ اللهِ مِن ثَوَابِ الآخَرِ الذي تَصَدَّقَ بِمائَةِ ألفٍ التي هي قليلٌ مِنْ كَثيرٍ بالنسبةِ لِمَالِهِ الكثيرِ.

ثُم إن اللهَ لا يَقْبَلُ الحَسنَاتِ مِنَ الصلاةِ والصيامِ والصّدقاتِ إلاّ بَعدَ معرفةِ اللهِ، مَنْ لم يَعْرِفِ اللهَ كما يجِبُ مهما عَمِلَ منَ الحَسنَاتِ لا يَقْبَلُ اللهُ منهُ، أمَّا من عَرَفَ اللهَ ءَامَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فهو الذي تُقْبَلُ منهُ الحسناتُ، ثم الإيمانُ بِاللهِ هو معرِفَةُ أنَّ اللهَ مَوْجُودٌ لا يُشْبِهُ غَيرَهُ، ذاتُ اللهِ ليسَ جِسْماً لَطيفاً كالضَّوءِ والريحِ وَلا هو جِسْمٌ كثيفٌ كالإنسانِ وَالشَّمسِ وَالقَمرِ وَالنجُومِ، ليسَ حجْمَاً صَغيراً ولا حَجْماً كبيراً، كانَ مَوْجوداً قبلَ كُلِّ شيءٍ، قَبلَ السَّمَاواتِ وَقَبلَ الأرْضِ وَقَبلَ الجِهَاتِ السِتِّ، كان موْجُوداً قبْلَ وُجودِ المكانِ بِلا مَكَانٍ ثُم خلقَ المكانَ وَخَلَقَ قَبلَ كُلِّ شيءٍ الماءَ، ثُمَّ خلَقَ جِرْماً كبيراً يُقَالُ له العَرشُ ثم خَلَقَ جِرْماً يُقَالُ لهُ القلَمُ الأعْلى لَيْسَ كأقْلامِ الدُنيا، وَخَلَقَ لَوْحَاً مِسَاحَتُهُ مَسِيرَةُ خَمسُمِائَةِ سنةٍ فَجَرى هذا القَلَمُ بِقُدْرَةِ اللهِ وَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ يصيرُ في الدُنيا إلى يَوْمِ القيامَةِ، ثم خَلقَ بعْدَ ذلِكَ بِخَمسينَ ألفَ سَنَةٍ الأرْضَ والسماواتِ وَلَمْ يَكُنْ قَبلَ أنْ يَخْلُقَ اللهُ الليلَ وَالنهارَ نُورٌ ولا ظلامٌ ثم كُلُّ هذهِ الأشيَاءِ خَلَقَها اللهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَخَلَقَ الإنسَانَ ءَاخِرَ كُلِّ شَيءٍ من العالَمِ، بعدَ أن خُلِقَ كُلُّ أنواعِ العالَمِ خَلَقَ اللهُ ءَادَمَ أبا البَشَر عليهِ السلام. خَلَقَ الأرضَ في يَوْمينِ الأحَدِ والاثنينِ، ثمَّ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ السَّبْعَ الثلاثاءُ والأرْبَعاءُ، ثُم خَلَقَ في اليَومَيْنِ الآخَريْنِ مَرَافِقَ الأرْضِ الجِبَالَ والأشجَارَ وَالأنهارَ والبِحارَ، وَجَعَلَ في الأرضِ الأماكِنَ التي ينتَفِعُ بها الناسُ الأماكِنَ التي تَصْلُحُ لأِنْ يَسْلُكوها، ثم خلقَ اللهُ تعالى ءَادمَ ءَاخِرَ النهارِ العَصْرَ، أي ءَاخِرَ نهارِ يَومِ الجُمعةِ لأنَّ تلكَ الأيامَ السِّتَةَ كلُّ يَوْمٍ منها قَدْرُ ألفِ سنَةٍ بِحسَابِ أيامِنا هذهِ.

ءَادَمُ عليهِ السلامُ خُلِقَ من تُرابِ الأرضِ مَلَكٌ من الملائِكةِ رفعَ هذا التُرابَ بِأمرِ اللهِ إلى الجنةِ وَعُجِنَ بِماءِ الجَنَّةِ وَلم يَرِدْ مَنْ هوَ هذا الملَكُ الذي فعلَ ذلك يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ جِبْريلَ أو عَزْرَائيلَ أو غَيْرَهُما، وبقي هذا التُرابُ طِيناً مُدّةً ثم تَحوَّلَ شَيئاً يَابِساً جامِداً كالفَخّارِ ثم حَوّلَهُ اللهُ لحْماً وعِظاماً ودَماً، ثم أدْخَلَ فيهِ الرُّوحَ ثم عَلَّمَهُ اللهُ تَبَاركَ وتعَالى الكلامَ وأفاضَ على قلبِهِ فصَارَ يَعرِفُ أسماءَ كُلِّ شيءٍ ثم خَلَقَ اللهُ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أضلاعِهِ حوَّاءَ وَزَوَّجَهُ إيَّاها، جعَلَها زوجَةً لهُ فعَاشَ ءَادَمُ في الجنَّةِ مِائةً وثلاثينَ سنَةً ثم أنزلَهُ اللهُ إلى الأرضِ وَعَلَّمَهُ أمُورَ المعيشَةِ، علَّمَهُ كيفَ يُزْرَعُ القَمْحُ ثم يُحْصَدُ ثُمَّ يُعْمَلُ منهُ الخُبْزُ وعَلَّمَهُ كيفَ يُسْتَخْرَجُ الحديدُ وكيف يُسْتَخْرَجُ النَّارُ وكيفَ يُعْمَلُ نقْدُ الذَّهَبِ ونَقْدُ الفِضَّةِ لِيَتَعامَلَ بِها النَّاسُ. ثُم حَوَّاءُ وَلَدَتْ لهُ أربَعينَ بطناً في كُلِ بَطْنٍ ذَكَرٌ وأنثى وبَطْنٌ واحِدٌ وُلِدَ مُنفَرِداً قيلَ إنَّهُ شِيث، ثم هؤلاءِ توالَدُوا وكثُرَ عَدَدُهُم فبَلغَ عَدَدهُم في حياةِ ءَادمَ أربعينَ ألفاً لأنَّ ءَادَمَ عاشَ ألفَ سَنَة، المِائَةَ والثلاثينَ التي عاشَها في الجَنَّةِ وتَكْمِلَةُ الألفِ في الأرْضِ.

وأمرُ وِلاَدَةِ حَوَّاءَ هذا العَدَدَ ليسَ نصَّاً نَبَوِياً إنَّما هو خَبَرٌ من تَواريخِ الأُمَمِ. وَعَلَّمَ ءَادَمُ أوْلادَهُ الإيمانَ بِاللهِ وَملائِكَتِهِ وَعَلَّمَهُم أنَّ اللهَ يُرْسِلُ أنبيَاءَ يَدْعُونَ إلى دينِ اللهِ وعَلَّمَهُم أنَّ اللهَ يُنَزِّلُ كُتُباً على بعضِ الأنبِياءِ وعَلَّمَهُم أنَّهُ يأتي يَوْمٌ يُفنِي اللهُ فيهِ الإنسَ والجِنَّ، يموتُونَ ثم يُحْيِيهِمُ ثم النَّاسُ بَعْدَ ذلِكَ يُحاسَبُونَ، ثُمَّ المُؤمِنونَ بِاللهِ والأنبِياءِ الملائِكةُ يَسُوقُونَهُم إلى الجَنَّةِ، والكُفَّارُ يَسُوقُونَهُم إلى جهَنَّمَ ثم يعيشُ المؤمنونَ في الجنةِ أحياءً بلا موتٍ إلى ما لا نِهايَةَ لهُ، والكُفَّارُ يعيشونَ في جهنَّمَ إلى ما لا نِهايَةَ لهُ. نارُ جَهَنَّمَ قَوِيِّةٌ ومع ذلكَ الكُفَّارُ لا يموتونَ فيها حالُهُمْ كما قالَ اللهُ تعالى: {لا يَمُوتُ فيها َو لاَ يَحْيا} معْنَاهُ الكَافِرُ لا يَموتُ فيَذهَبَ إحسَاسُهُ بِالنارِ ولا يحْيا حياةً يَجِدُ فيها راحَةً.

ءَادمُ كانَ نبيّاً وهو أوّلُ الأنبياءِ ثمَّ بعدَ مَوْتِهِ ابنٌ لَهُ يُقالُ له شِيث كانَ هو نبيَ زَمَانِهِ ثم بعد مَوتِهِ الله تعالى أرسَلَ نبياً اسمُه إدريسَ، ثم بعد ذلكَ أنبياءَ كثيرينَ وءاخِرُهُم نبيُنا محمدٌ، بعدَه لا يأتي نبيٌ ءَاخَرُ إلى يومِ القيامةِ. وعيسى عليهِ السلامُ أُرسِلَ قبلَ نبينا محمدٍ ومُدَةُ ما بينَه وبينَ سيدِنا محمدٍ سِتُمِائَةِ سنةٍ، ثم هؤلاءِ الأنبياءُ كلٌ منهم اللهُ أخذَ علَيهِ عهداً بأنهُ يجبُ أن يُؤمنَ بمحمدٍ إذا ظهرَ ويَنصُرَهُ، اللهُ يَعْلَمُ بأنَّ محمّداً يأتي بعدَ كُلٍّ مِنهُم لكنْ إكراماً له وإظْهاراً لِشَرَفِهِ عَلى جميعِ خَلْقِهِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ نبيٍ عَهْداً بِأنَّهُ إن جاءَ محمدٌ وأنت حيٌّ تؤمِنُ به وتَنصُرُهُ فكان كلُّ نبي يَعْلَمُ أنهُ سيأتي نبيٌّ اسمُهُ محمدٌ عليهِ السلامُ.وَمِنَ الدَّليلِ على أنَّ البَشرَ كلَّهم كانوا علىالإسلامِ قَوْلُ اللهِ تَعَالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبيينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرين أيْ كَانوا كلُّهم على دِينٍ وَاحِدٍ هو الإسْلامُ ثم اخْتَلَفوا وبَعْدَ أن اخْتَلَفوا بِأنْ اتخَذَ بَعضُهُم دِيناً غيرَ الإسْلامِ بَعَثَ اللهُ النَّبيينَ مُبَشِّرِينَ مَنْ ءَامَنَ بِالجَنَّةِ وَمَنْذِرينَ مَنْ كَفَرَ بِالنَّارِ.