الفتوى

الفتوى

إنّ الشريعة الإسلامية أوجبت على كل مسلمٍ أنّ يتقي الله عز وجل إذا تكلم في دين الله، أو حدّثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم أن يتحرّى في كلامه النقل عن أهل العلم والمعرفة الثقات في ما يتعلق في مسائل الشريعة وأحكام الدين، ليحل ما أحلَّ الله ويحرمَ ما حرمَ الله تعالى، وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أما إذا اعتاد الإنسان أن يطلق للسانه العنان وأنْ يتكلّم فيما لا يعلم من مسائل الشريعة كأن يقول حلال أو حرام أو جائز أو صح أو لا يصح، أو أن يفتي فيما لا يعلم فإنه يأتي بالطامّات المهلكات، ويتكلم بالأمور المنكرات، فيحلَّ الحرام ويحرمَ الحلال، ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويقع في الكبير من الإثم عند الله تعالى وهو معصية الفتوى بغير علم، والله تعالى بين ذلك في نص القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً، ومعنى الآية أي لا تقل قولاً بغير علم في دين الله فتهلك وتُهلك غيرك وتُسئَل عن ذلك في الآخرة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس التزامًا بهذا الأدب، فكان يُسأل صلوات ربي وسلامه عليه عن أمور وهو النبيّ الأكرم والرسول الصادق، وهو أعلم الخلق بالله وبدين الله وبشرعية الإسلام، فكانَ يقول: (لا أدري)، نعم يقول: (لا أدري) وهو الرسول المعلم القدوة صلوات ربي وسلامه عليه..!!، يقول وعلى ملأٍ من الناس: (لا أدري) وذلك لمّا سأله سائل: يا رسول الله أيُّ البقاع أحبُّ إلى الله ؟ فقال:(لا أدري، حتى أسأل جبريل)، ثم جاءهُ بالجواب فقال عليه الصلاة والسلام: إنّ أحبُّ البقاعِ إلى اللهِ المساجد، وإنّ أبغضُّ البقاعِ إلى اللهِ الأسواقوليس هذا ذمًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بل إرشادًا للأمة أن لا يتكلموا في الدين إلا بعلم ومعرفة، وهكذا أصحابه رضوان الله عليهم، كانوا من أعظم الناس ورعًا وأقلّهم في الفتوى تسرعاً ومن أقل الناس جرأة على الفتوى، وربّما سئل أحدهم سؤالاً فيحيلُ على أخيه، وأخوه يحيلُ على غيره، وهكذا يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركتُ بهذا المسجد يعني مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يُسأَل عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وفي رواية ما منهم من أحد يُحدث بحديث إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفى عن شىء إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفتيا...!

وهذا أبو بكر الصديق العتيق الذي لهُ ماله في هذه الأمة من الشأن والرِفعة والورع والتقوى والعلم يقول حين سُئل عن معنى آية في القرأن العظيم: (أيُّ سماء تظلّني وأيّ أرضٍ تُقِلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!)، وهاكَ عليّ بن أبي طالب إمام أهل البيت ذو العلم والوافر والذكاء والحفظ والبلاغة والنجابة والآخذ من رسول الله الحظ الوافر من العلم يقول:( وأبردَهَا على الكبدِ) قيل: ما هي؟ قال: (لا أدري حينَ لاأدري)، ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: العلمُ ثلاثة: آيةٌ مُحكمة، وسنةٌ ماضية، ولا أدري ، جعلَ " لا أدري" ثلث العلم، وجعلها غيرهُ نصف العلم.

وكذا حال العلماء من بعدهم في الورع والإكثار من قول "لا أدري" حين لا يدري، روى أبو بكر الأثرم قال سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر من قول "لا أدري" وذلك من أعرف الأقاويل فيه  وعن الهيثم بن جميل قال شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة فقال في إثنتين وثلاثين منها "لا أدري"، وعن مالك أيضًا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب عن واحدة منها وكان يقول: من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها.

وما زال هذا العلم الشرعي الشريف يحمله الخلف عن السلف بالأمانة والورع والتحري، حتى نبتت في زماننا هذا ظاهرة غريبة عن تقاليد المسلمين وعلمائهم، وهي الجُرأة على الفتوى والتكلم في مسائل الدين من كثير من الناس  بغير علم، بل جُلّ ما في الأمر أنه قرأ في كتاب أو بحث في الإنترنيت أو لجىء إلى أي إنسان لاعلم له ليسأل عن أمر دينه وعن ما يتعلق بآخرته، ولو سأل إنسان عن طريق ليهتدي الى عنوان فدله آخر بجهل الى عكس الطريق أعتبر الناس هذا خيانة وتضليل أن يتكلم بغير علم ويضلل السائل عن الطريق، فكيف بمن يسأل عن ما أحلَ الله وما حرم الله فيجاب بغيرعلم بل بالرأي والجهل، فيتخبط الكثيرون في منزلقات الحرام بسبب الفتوى بغير علم، وأنت ترى اليوم الفضائيات التى تمطر الناس بفتاوى لا أصل لها في دين الله بل حتى صفحات الأنترنيت والتواصل الإجتماعي كما يسمونه ملئت بفتاوى شاذه مضره مضلله بعيدة عن الحق والصواب، تصدر ممن لا علمَ لهم ولا نقلَ صحيح لهم عن أهل العلم بل يحرفونَ الكلم وينشرون الفتاوى الباطلة باسم الدين.

وإنكَ لتعجب ممن له جُرأة على أن يقول للناس شنيع القول وظاهر البطلان باسم الفتوى كمثل من يقول لمن غضبَ فسبَّ الله أو شتم الملائكة، أو لعنَ دينَ الإسلام، بكل جرأة وافتراء وباسم الدعوة والإرشاد والنصيحة يقال لمثل هذا المتلفظ بالكفر لابأس عليك ويهونون عليه الأمر بأنه غاضب أو جاهل أو نحوه، ولكنَّ الحقيقة غير ذلك بإجماع الملة والعلماء والسلف والخلف أنَّ الذي يشتم الله تبارك وتعالى مرتدٌ خارج من الإسلام، وعليه الرجوع الى الدين بالشهادتين لا بالإستغفار! فمثل هذا كثير، وكذا يجب الحذر من الخوض في معاني القرأن بغير علم وما حصل بنا من النوازل والحروب إلا من جَراءِ التَجرؤ على تفسير القرأن على نهج التطرف البغيض، ورمى الناس بالشرك واستباحة دمائهم حتى وصل الأمر إلى ما نرى ونسمع من الفظائع..!!

وقد جاء الخبر بالنهي الشديد عن الخوص في دين الله بجهل، ففي الحديث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:من أفتى بغيرِ علمٍ لعنتهُ ملائكةُ السماءِ والأرض وقال عليه الصلاة والسلام: مَن أفتى بغيرِ علمٍ فعليهِ لعنةُ الله والملائكةِ والناسِ أجمعين وروى أحمد عن الشافعي عن مالك عن محمد بن عجلانَ رضي الله عنهم أنه قال: إذا أغفلَ العالِمُ لا أدري فقد أُصيبت مقاتِلهُ أي هلكَ وقالَ بعضُ الصحابةِ أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار. وفي الحديث أيضًا أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: فربَ مُبلغ لا فقه عنده يفهم أنَّ بعض من كانوا يسمعون منه الحديث ليس لهم فقه أي قدرة على استخراج الأحكام من حديثه وإنما حظهم أن يرووا عنه ما سمعوه مع كونهم يفهمون اللغة العربية الفصحى، فما بالُ بعض الناس الذين يتجرأونَ على الفتوى بغير علم ويقولون: (أولئك رجال ونحن رجال) أولئك رجال يعنون المجتهدين كالأئمة الأربعة كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم. وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنَّ الله لا يَقبضُ العلم إنتزاعًا ينتزعهُ من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا إتخذَ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغيرعلمٍ، فضَلُّوا وأضَلوا اللهمَّ علمنا ما ينفعنا وزدنا علما.