1424 عام هجري جديد

1424

عام هجري جديد

 إنَّ في حياةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداثاً حوّلت مجرَى التاريخ، وأحدَثت أعظمَ نقلة، وأعقبت أقوَى الآثار، تبوَّأت منها الهجرةُ النبويّة المبارَكَة مكاناً عليًّا ومقاماً كريماً ، حيثُ كانت بحقٍّ فتحاً مبيناً ونصراً عزيزاً ورِفعة وتمكيناً وظهوراً لهذَا الدّين ، وهزيمةً وصَغاراً وذلاً للكافرين المشركين.

وفي وقائِع هذه الهجرة  المباركة  الكثير مِن الدّروس والعبَر، وفي أحداثِها من الفوائد والمعاني ما لا يكاد يحِيط به الحصر ولا يستوعِبه البيان، فمنها أنَّ العقيدةَ أغلى من الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمىَ من الديار، وأنَّ الإيمان أثمنُ من الأوطان ، وأنَّ الإسلامَ خيرٌ من القناطير المقنطَرة من الذّهبِ والفِضّة والخيلِ المسوّمة والأنعام والحَرْث ومن كُلِّ مَتاعِ الحياة الدنيا ، يَتجَلّى هذا المعنَى بيّنًا واضحاً في خروجِ هذا النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبِه الصدّيق رضي الله عنه مهاجرَيْن من البلدِ المبارَك، والحرمِ الآمِن ، والأرضِ الطيّبة، التي صوّرَ واقعَها الحديثُ الذي أخرجَهُ أحمد في مسندِه والترمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسولَ اللهِ واقفًاً على الحَزْوَرَة  يعني مكانٌ مرتفع وقال: واللهِ ، إنَّكِ لخَيرُ أرضِ اللهِ وأحَبُّ أرضِ الله إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرجِتُ منكِ ما خَرجتُ، وفي الهجرة كمَال اليقينِ بمعيّةِ الله تعالى لعبادِه المؤمنين الصَّادقين، ذلكَ اليقين الرَّاسخُ الذي لا تُزعْزِعُهُ عواصِفُ الباطل، يَستبينُ ذلك جَليًّا في حالِ هذَين المهاجرَين الكريمَين حينَ عَظُمَ الأمرُ، واشتدَّ الخَطرُ ببلوغِ المشركين بَابَ الغارِ الذِي كَانَا فيه، وحِينَّ قالَ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه: واللهِ يا رسولَ اللهِ، لو أنَّ أحدَهم نَظرَ إلى مَوضِعِ قَدمَيهِ لرآنَا، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَولتَه العظيمة البليغة في التوحيد والثقة بالله والمذكرة بأنَّ اللهَ  عَالمٌ بكل شَىء وأنَّ المؤمنينَ يَستَحضرون أنَّ اللهَ مَعهُم في الشدائد.. يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَينِ اللهُ ثالثُهمَا، وأنزَلَ سُبحانه وتعالى مُصداقَ ذلك في كتابه، أنزلَ قولَه إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وأيُّ مَعِيّةٍ هَذهِ المعِيةَ؟ إنّها المعيّةُ الخاصّة التي تكونُ بالتّأييدِ والتّوفيقِ والحِفظ والمعونةِ والنّصر إنّما جَعلها اللهُ تعالى لأوليائِه المتّقين المحسِنين، الذين آمنوا بالله  ورسوله وثبتوا على العقيدة الصحيحة، توحيد الله تعالى وتنزيه عن مشابهة الخلق ثمَّ العمل بما أمر الله والإبتعاد عن ما نهى الله اولئك أولياء الله، اللهُ مَعهُم أيّ اللهُ يَنصرُهم ويؤيدهم ويثبتهم ويجعلهم الأعلونَ ولهمُ الدرجاتُ العُلا في الآخرة، والمعيّةُ تأتى بمعنى َالعلم، كقولهِ تعالى: وهوَ مَعكم أينمَا كُنتم، أي عالمٌ بكم حيثُ كُنْتُمْ، اللهُ تعالى لا يخفىَ عليه شَيء، عَالمٌ بالأماكنِ كُلهَا، وهوَ موجودٌ بلا مكان ، حتى إذا سَكَنَ الطلب عنهُما قليلاً خَرَجَا من الغار بعدَ ثلاثِ ليالٍ مُتَجِهينَّ إلى المدينة على طريق الساحل.

ثم لحقَهُما سُرَاقَة بن مالك المدلجي، على فرسٍ لهُ فالتفتَ أبو بكر فقال: يا رسولَ الله هذا الطلبُ قد لحقِنَا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا تحزَن إنَّ اللهَ مَعنا، فدَنا سُراقة منهما حتى إذا سَمعَ قراءةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، غَاصَتْ يَدَا فَرَسهِ في الأرض حتىَ مَسَّ بطنُها الأرض، وكانت أرضاً صَلبْةً فنزلَ سُراقة وزجَرها فنَهضَتْ وقامت ، فلمّا أخرجت يديهَا صارَ لأثرهما عثان سَاطع في السماء مثل الدُخان، قال سُراقة: فوقعَ في نَفسي أن سَيظهرُ أمرُ رسولِ الله، فناديتهم بالأمان، فوقفَ رسولُ الله، ومن مَعهُ فركبتُ فَرسي حتى جِئتَهم ، وأخبرتهم بمَا يُريِدُ النَّاس بهم، وعرضتُ عليهم الزادَ والمتاع، وقال للنبيّ: إنَكَ تَمرُ على إبلي وغَنمي بمكانِ كذا فخُذْ منها حاجتَك. فقال النبيّ لا حَاجةَ لي في ذلك وقال أَخْفِ عَـنّا أيّ لاتخبر أحداً بنا، فرجعَ سُراقة وجعلَ لا يَلقى أحداً من الطلب إلا ردَهُ وقال: كُفِيتُم هذهِ الجهة فسبحَانَ الله، رجلٌ يَنطلقُ على فَرَسهِ طالباً للنبيّ وصاحبهُ ليظفرَ بهما فيفخرَ بتسليمهما إلى أعدائِهمَا من الكفار، فلمْ يَنقلِب حتى عَادَ نَاصِراً مُعيناً مُدَافِعاً يَعرضُ عليهما الزادَ والمتاع وما يُريدان من إبلهِ وغَنَمهِ، ويَردُ عن جهتهما كل من أقبل نحوها، وهكذا كلٌ من كانَ الله معهُ ناصره فلنْ يضرُه أحدٌ، وتكون العاقبة له، ويعودُ سُراقة ويكمل الرسول مسيرته إلى طيبة المدينة المنوره، ويصل هناكَ ليستَقبله المسلمون بحفاوةٍ وترحيب وفرح وحب، وليؤسِسَ صلى الله عليه وسلم دولةَ الإسلام، ويعزَّ الله دينه ، ويُعلي كلمته ولو كرهَ الكافرون ولو كره المشركون.

 إنَّ هذهِ  الِهجرَةِ المباركة وعبرِها هيَ جديرة بأن تبعثَ فينا اليومَ ما قد بعثَته بالأمسِ مِن روحِ العزَّة ، وما هيَّأته من أسبابِ الرِّفعة وبواعثِ السموِّ، وعواملِ التَّمكِين، ولنّا مع بداية العام الهجري أملٌ أن يكون العام المقبل عام خير وبركةٍ على الأمة وأنّ يُغيرَ اللهُ الحال لأحسن، وأن تتوحدَ الكلمة على التقوى، ولنا وقفة محاسبة لعام مضى ماذا سُطِرَ في صحائفِنا من تقصير نسأل اللهُ المغفرة والإعانة على الخير ما تبقى من أعمارنا، كل عام والأمة الإسلامية بخير من الله تعالى.

والله تعالى أعلم وأحكم.