الانتحار
إنَ الفكر ليقِف حَائراً أمامَ ما يُنقلُ من مشاهد وأخبار عبرَ وسائلِ الإعلام عن مسلمين إنتحروا بإضرامِ النار في أجسادهم أو تجرع السموم أو الشنق أو الضرب بالرصاص ونحوه، إحتجاجًا على سوءِ المعيشة في بلادهم، أو على البَطالة أو على عدم حصولِهم على وظائفَ تُناسِبُ مؤهلاتِهم أو من بسبب فقر شديد. وقد اعتدنا أنّ نسمعَ أنَّ نسبة المنتحرين هي أكبر في الدول التى شعوبها في تَرَفٍ ورَغدٍ منَ العيش أو بينَ المُلحدينَ الذين لا إيمانَ عندَهم بالله ولا تَصديقَ في قلوبهم بالبعث يوم الدين ولايعرفون حلالاً ولا حراما ، أما أن يَصير حرق الأجساد في بلاد المسلمينَ ويصور بالبطولةِ وأنَهُ الغاية التى توصِلُ لنيلِ الحقوق فسبحانكَ اللهمَّ هذا بُهتانٌ عَظيم.
وإنَّ هذه الممارسات التي ظهرت على الساحة اليوم نِتاج الفقرِ والضغطِ الإجتماعي ، والظلم من الحكومات ، لا تجعل هذه الجريمة النكراء والفعل المُحرم أمراً جائزاً ولا يستحلها أحد ممن آمن بالله ربا وبالإسلام دينا، بل لم يقل أحد من أهلِ العلم أنه يجوِّز لمسلم قتل نفسه بسببِ فقره أو إعتراضًا على حكومتهِ لظلمِها ، إنّما هو قتل نَفْسٍ بغَيرِ حقٍّ عَمْدًا ولا يخرج عن كَونِهِ إنتِحَارًا مُحرّماً لا عُذرَ له في شَرْعِ الله تعالى . وحُكمُ مَن استَحسَنَ هذا الفِعلَ أو استَحَلّهُ أنّه كَذّبَ القُرءَانَ والحَدِيثَ قال الإمام النَسَفىّ وَرَدّ النصوص ُكفرٌ. وليتّقِ اللهَ بعضُ المشايخِ وغيرهم من الذينَ يُفتُونَ على الفضائيات بخلافِ ما أنزلَ الله، وليُعلم أنَّ النفس عظيمةُ الحُرمَةِ عندَ الله تعالى، فلا يجوزُ للإنسانِ أن يُزِهِقَ نفسَهُ لأي سَبَبٍ كانَ قالَ تعالى: ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم إنّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا
واللهُ تعالىَ أعطىَ الإنسانَ هذه النعم وأمرهُ بالمحافظة على هذا الجَسد، إذ هوَ وديعة يَجبُ أن يَرعاهُ ويصونه ويحفظهُ من كل ما يَخدشهُ أو يوردهُ المَهالك أو يؤثرَ فيه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا " فهذه الآيات فيها نَهي للمؤمنين أن يَقتُلَ بعضهم بَعضًا، ونهيٌ لكلِ واحدٍ منهم أن يَعتديَ على نفسهِ بالقضاءِ عليها وإزهاقها، فهيَ ليستْ مِلكًا له، واعتداءُ الإنسانِ على نفسهِ بقتلِها جريمةٌ ومعصية كبرى يَترتب عليها العقاب الأليم والوعيد الشديد الذي جاءت به النصوص الشرعية التي بَينت أنه من المحرمات ومن أعظم الكبائر.
روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منْ َقتلَ نفسَه ُبحديدةٍ فحَديدَته ُفي يَدهِ يَتوجَأ(يضرب) ُبِها في بَطنِهِ فيّ نارِ جَهنَم َخالدًا مُخَلدًا فيها أبدًا، ومنْ تَحَسَّىَ سُمًا فقتلَ نفَسَه فسمُّه ُفي يَدهِ يَتحَسَّاهُ في نارِ جهنَمَ خَالِدًا مُخلدًا فيها أبدًا، ومنْ تَردَىَ منْ جَبَلٍ فقتلَ نفسَه ُفهوَ يَترَدَىَ فيّ نارِ جَهنَمَ خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا، رواهُ البخاري ومسلم. وقال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ومَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىءٍ في الدّنيا عُذِّبَ بهِ يومَ القيامَة ، رَوَاهُ البُخَارِيّ ومسلم فدلَّ هذانِ الحديثان على أنَّ من أقدمَ على قتلِ نفسهِ بارتكابِ أحد الأفعال الواردة في هذا الحديث أو ما كانَ في معناها فإن عقبوته العذاب في جَهنمَ بنفسِ الفعل الذي أجهَزَ بهِ على نفسِه، فمن ألقىَ نفسَه ُمن مكانٍ عالٍ مرتفع أو موقعٍ شاهقٍ أو ضَربَ نفسَه بحديدةٍ كالسيفِ أو السكينِ أو المسدسِ أو نحو ذلك أو تناولَ مادة من الموادِ السَامّةِ القاتلةِ فأدىَ ذلكَ كله إلى مَوتِه فإنه ُيُعذَبُ في النّارِ بفعلتِه الشَنعَاء التي أقدمَ عليها. وظاهرُ هذا الحَديث يَدلُ على خلودِه في النارِ وبقائِه فيها مُعذبًا أبدَ الآبدينَ وهذا علىَ تأويلٍ للعلماءِ وتفصيلٍ منهم فقد ثبتَ أنَّ المُسلم لا يُكفَرُ بالذَنب مالمْ يَستَحِلهُ ولا يَخْلد في النار إن ماتَ مُسلماً فكانَ معنى قوله عليه السلام: فهوَ في َنارِ جَهَنَمَ خَالدًا مُخلدًا فيها أبد، محمولٌ على أنه ُإستحَلَ قتلَ نفسِه فهوَ كافرٌ مُعانِد ٌ للشريعَةِ مُكذِبٌ للنصُوصِ القرُءانيةِ.
وأمّا من قتلَ نفسَه ُوهوَ لايَستَحِل ذلكَ فهوَ مُسِلمٌ عَاصٍ يُرجىَ له ُعندَ اللهُ مَغفرةً وتوبة ولو عُذّبَ لابُدَ أن يَخرُجَ منّ النارِ ولا يَخلد فيها، فالمقررُ عندَ أهلِ السُنة قاطبة أنه ُلايَخلدُ في النارِ من ماتَ على الإيمان وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: يَخرُجُ منَّ النارِ منْ قالَ لاإلهَ إلاّ الله وفي قلبِهِ وزنُ ذَرَةٍ من إيمَانْ، ومما يَدلُ على أنَّ المُنتَحِر لايَكفُرُ بفعلِه ما لمْ يَستحل القتل الحديث المروي في صحيح البخاري ومسلم وفيه: لمّا هاجرَ النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجرَ إليه الطفَيل بن عمرو، وهاجر معه رجلٌ من قومه ، فمرِضَ فجزع ، فأخذَ مشاقص له (آلة حادة ) فقطعَ بها أصابعه فشَخَبت يَداهُ سالَ دمُه حتى مات، فرآه الطُفيل بن عمرو في منامه وهيئتهُ حسنة ، ورآه مغطياً يديه ، فقال: ما صَنعَ بكَ ربُكَ ؟ فقال: غفرلي بهجرَتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراكَ مُغطياً يديكَ ؟ قال: قيل لي:لن نُصلحَ منكَ ما أفسدتَ. فقصَها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيُ:اللهمّ وليَديّهِ فاغفِر.
هذه الحادثة التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيها عبرٌ ودلالات كثيرة، منها: أنّ صاحبَ هذه الكبيرة لم يُكفَر بما فعلهُ، ولهذا استغفرَ له النبيُ صلى الله عليه وسلم ودعا له ومعلومٌ أنَّ النبيّ لايستغفرُ لمن ماتَ كافراً، وفي هذا دلالة ٌعلى أنَّ صاحبَ الكبيرة مهما عظُمَتْ كبيرته لايخرجُ من الإسلام ، ويُرجى له المغفرة لقوله تعالى: وَيغِفرُ ما دونَ ذلكَ لمنْ يَشاء فأخبرَ أنَّ مغفرته تقع لبعضٍ دونَ بعض، وهكذا نصوصُ الشفاعة المتواترة فإنها صريحةٌ في إنفاذِ وعيد بعضِ أهلِ الكبائر فإنَّ أهلَ السُنة مجمعونَ على أنه لا يخلدُ في النار أحدٌ من أهل التوحيد مهما عظمت ذنوبه ، وإذا علِمنَا ذلكَ تبينَ فسادُ قول الكثيرين أنّ من ينتحر يموتُ كافر ولايُصلىَ عليه ، فالصحيح أنه مسلمٌ يصلى عليه ويترحمُ عليه ويدفنُ في مقابر المسلمين،
وعلِمنا أيضًا أنّ الشرعَ أوجَب على المسلمِ حِفظَ نفسه، وحرَّم عليه التعدّيَ عليها والجنايةَ عليها، قال الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فيا أيها المسلم المبتلى بفقر وشدة وظلم، تذكر أن نفسُكَ أمانةٌ، لا تتعدَّى عليها، حافظ عليها حتى مُفارقةِ الروح للجسد.
هذا حكم الإنتحار في شرع الله تعالى، فإنّ هذا من كبائرِ الذنوب، والمؤمن مأمورٌ بالصّبر في البلاءِ والرّضى بقضاء الله وقدره، وأنّ هذه المصائبَ تكفِّرُ الذنوبَ وترفعُ الدرجات في الآخرة.
والمسلِم يَفرَحُ بالحياة لا للحياة لا للمُتع بل ليتزوّدَ منها عملاً صالحًا قبلَ مفارقته للدنيا وإقباله على الآخرة، وما من مؤمنٍ إلا و يعلَمُ أنَّ حياتهُ مقدَّرة بزمنٍ قدَّره ودبَّره من علِمَ الأمور كلَّها وهو الله تعالى الذي خلق لكل نفس أجلها ، لأجل هذا يعيشُ المسلم منتظرًا أجلَه الذي قدَّره الله له، يَجِدُّ ويعمَل صالحًا ليتزوّد من حياتِه لمعادِه، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى . فحياتُه لهدفٍ وهي طاعةُ الله ، والتزوّدٌ من هذه الدنيا لدار الأخرة الباقية، والمؤمن منهي عن تمنِّي الموت، روى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا يتَمَنينَّ أحدَكُمُ الموتَ لضُرٍ نزَلَ به ، فإن كانَ لا بُدَ متمنياً فليقل: اللهمَّ أحيني ما كانتِ الحياةُ خيراً لي و توفني إذا كانتِ الوفاةُ خيراً لي. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يتمنينَّ أحدكُم الموتَ : إما مُحسِناً فلعلهُ أن يزدادَ خيراً ، وإما مُسيئاً فلعلهُ أن يُستَعتب رواه البخاري ورويَّ أنّ رجلاً من أصحابِ رسول الله يُسمىَ العِربَاضَ بنَ سارية، كبُرَ سِنهُ بعدَ وفاة رسول الله فصارَ يشعرُ بضعفٍ وإنحطاطٍ في جسمه فكانَ يتمنىَ الموت ، فيقول: اللهمَّ إنهُ كَبُرت سني ورَقَ عظمي فاقبضني إليكَ. فبينما هو ذات يوم في مسجد دمشق رأى شاباً جميل الشكل يلبسُ ثوباً أخضراً فقال له : لا تَقل هكذا ، قال له : ماذا أقول، قال قل: أللهمَّ حَسِّنِ العملَ وبلِّغِ الأجلَ. فقال: جزاك َاللهُ خيرا، من أنت َ؟ فقال: أنا مَلكٌ من الملائكة أرسَلني اللهُ إليك لأعلمكَ هذه الكلمات، فتمني الموت لا يليقُ بالمسلم، لا يتمنّاه، لماذا؟ لأنّه يريدُ ولو ساعة يعيشها في الدنيا، فعسَى توبة نصوحا، وعسى حسنة تُزادُ على حسناتِه وتوبة تكفِرُ سيئاتِه وعسى كلمة يقولها يَختِمُ الله له خيرًا.