هم رجال ونحن رجال
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
عبارة يرددها البعض وهم يَعنون بها أن لأي شخص أن يُدلي باجتهاده في مسائل الدين والنوازل والأحكام التى تطرأ على ألأمة فتراهم إذا ما قيل له هذه المسائل تَكلم واجتهد بها أهل العلم الأفذاذ أمثال الأئمة الأكبارابي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم فيقيس الغُرُ نَفسهُ بهم ويقول وإن يكن نحن نجتهد مثلهم فهم رجالٌ ونحن رجال...!! مريداً بهذه العبارة أن لكل إنسان ان يخوض أمر الإجتهاد في والدين واستنباط المسائل والأحكام التى اتفق المسلمون على أنه لا يجتهد بها إلا من بلغ رتبة الإجتهاد وحاز أدوات الإجتهاد والإستنباط وإلا لعمت الفوضى، فالإجتهاد في مسائل الدين له أهله كما بينت الآية:{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }، فما هو الإجتهاد وما هو التقليد ؟ ومن له الأهلية على ذلك؟
الإجتهاد هو إستخراج الأحكام التي لم يرد فيها نصٌ صريح لا يحتمل إلا معنى واحدًا، والمجتهد هو من توفرت فيه صفات وأدوات تمكنه من الإجتهاد ومنها:
1 ـ حفظ آيات الأحكام.
2 ـ حفظ أحداديث الأحكام.
3 ـ معرفة أسانيد أحاديث الأحكام مع معرفة رواة الأسانيد.
4 ـ معرفة الناسخ والمنسوخ من القرأن والحديث.
5 ـ إتقان اللغة العربية بحيث يحفظ مدلولات ألفاظ النصوص على حسب اللغة التى نزل بها القرآن.
6 ـ معرفة ما أجمع عليه المجتهدون وما أختلفوا فيه مع معرفة المجمل والمبين والظاهرونحوه.
7 ـ فقهُ النفس أي قوة الفهم والإدراك.
8 ـ العدالة وهي السلامة من الكبائر ومن المداومة على الصغائر وغير ذلك وهذا واضح انه ليس أي من العلماء مجتهد له أهلية الإجتهاد عند النوازل والمسائل التى لم يرد فيه نص صريح والناس قسمان ما بين مجتهد وصل إلى رتبة الإجتهاد ومقلد أما المقلّد فهو الذي لم يصل إلى هذه المرتبة له رخصة بأن يعمل بأي مذهب يريد إن شاء يقلد مذهب الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم ، وإن شاء مرة يقلد هذا ومرة هذا ومرة هذا، أما المجتهد فلا يعمل بغير اجتهاده. والدليل على أن المسلمين على هاتين المرتبتين قوله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فربّ مُبلغ لا فقه عنده". رواه الترمذي وابن حبان. الرسول دعا في حديثه هذا لمن حفظ حديثه فأدَّاه كما سمعه من غير تحريف بنضرة الوجه أي بحسن وجهه يوم القيامة، وبالسلامة من الكآبة التي تحصل من أهوال يوم القيامة لأن يوم القيامة يوم الأهوال العظام والشدائد الجسام. الشاهد في الحديث قوله: " فرب مبلغ لا فقه عنده "، وفي رواية: " ورب مُبلَغ أوعى من سامع"، فإنه يُفهمنا أن ممن يسمعون الحديث من الرسول مَن حظـُه أن يروي ما سمعه لغيره ويكون هو فهْمُه أٌقل من فهمِ مَن يبلغه بحيث إن من يبلغه هذا السامع يستطيع من قوة قريحته أن يستخرج منه أحكامًا ومسائل ـ ويسمى هذا الاستنباط ـ والذي سمع ليس عنده هذه القريحة القوية إنما يفهم المعنى الذي هو قريب من اللفظ. من هنا يعلم أن بعض الصحابة يكون أقل فهمًا ممن يسمع منهم حديث رسول الله. وفي لفظ لهذا الحديث: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، وهاتان الروايتان في الترمذي وابن حبان. وهذا المجتهد هو مورد قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" رواه البخاري، وإنما خصّ رسول الله في هذا الحديث الحاكمَ بالذكر لأنه أحوج إلى الاجتهاد من غيره فقد مضى مجتهدون في السلف مع كونهم حاكمين كالخلفاء الستة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي وعمر بن عبد العزيز وشريح القاضي. وليس شرطـًا أن تكون اجتهاداتهم متّفقة في كل المسائل بل تختلف اجتهاداتهم في كثير من المسائل وفي ذلك رحمة للعباد وتسهيل لهم، وأما دعوة الألباني أيَّ إنسان أن يعمل بحديث: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" فيه تشجيع العوام على ترك العمل بما عليه أهل الاجتهاد والعمل بما يميل إليه قلبه، ولا يخفى أن العاميَّ قد يميل إلى ما يخالف الشرع، فكيف يترك فتوى المجتهدين المعتبرين ويعمل بما تميل إليه نفسه، وهذا الحديث كان الخطاب فيه للصحابي وابصةَ بن معبد وهو من مجتهدي الصحابة، فوابصة رضى الله عنه ومن كان مثله مجتهدًا فهو الذي يأخذ بما ينشرح به قلبه وليس أي إنسان، وإلا لأدّى ذلك إلى فوضى.
وقد عدّ علماء الحديث الذين ألفوا في كتب مصطلح الحديث المُفتين في الصحابة أقل من عشرة قيل: نحو ستة، وقال بعض العلماء: نحو مائتين منهم بلغ رتبة الاجتهاد، وهذا القول هو الأصح.فإذا كان الأمر في الصحابة هكذا فمن أين يصح لكل مسلم يستطيع أن يقرأ القرأن ويطالع في بعض الكتب أن يقول أولئك رجال ونحن رجال فليس علينا أن نقلدهم، وقد ثبت أنّ أكثر السلف كانوا غير مجتهدين بل كانوا مقلدين للمجتهدين. وفي هذا المعنى ما أخرجه أبو داود من قصة الرجل الذي كانت برأسه شجة فأجنب في ليلة باردة فاستفتى من معه فقالوا له: إغتسل، فاغتسل فمات فأُخبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "قتلُوه قتلَهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيّ السؤال" أي شفاء الجهل سؤال أهل العلم، وقال عليه الصلاة والسلام إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده، الحديث رواه أبو داود وغيره، فإنه لو كان الاجتهاد يصح من مطلق المسلمين لما ذمَّ رسول الله هؤلاء الذين أفتوه وليسوا من أهل الفتوى. فالحذر الحذر من الذين يحثون أتباعهم على الاجتهاد مع كونهم وكون متبوعيهم بعيدين عن هذه الرتبة فهؤلاء يُخربون ويدعون أتباعهم إلى التخريب في أمور الدين وشبيه بهؤلاء أناس تعودوا في مجالسهم أن يُوزعوا على الحاضرين تفسير ءاية أو حديث مع أنه لم يسبق لهم تلقِّ معتبر من أفواه العلماء. فهؤلاء المدعون شذّوا عن علماء الأصول لأن علماء الأصول قالوا: "القياس وظيفة المجتهد" وخالفوا علماء الحديث أيضًا. ففي الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا." وكم نرى ونسمع متطفلين على العلم والعلماء ليسوا في الإجتهاد ولا في العلم لهم باع بل سيرتهم الجرأة على الفتوى ودأبهم الخوض في التحليل والتحريم بالجهل فيتكلمون بلا علم فيجتهدون وينظرون ويقيسون ويفصلون متشبعين بما لم يعطوا، ترى أحدهم يجيب في عظيم المسائل مما لو عرض على جمع من الصحابة لتوقفوا في الكلام فيه، وكم يتملكك العجب والإندهاش وأنت تسمع منهم عبارات التعظيم لذواتهم والتعالي في نفوسهم! وشعارهم كلمات يرددونها بافتخار فيقولون العلماء رجال ونحن رجال!!!. ورأينا في المسئلة كذا!!، والراجح عندي!!، وقلت، وأقول، واختياري، والذي أراه، واجتهادي، فالكلام كلام أهل العلم والمتلكم به من أهل الهوى والجهل فليس كل من لبس عباءة أو كور عمامةً، أو نال شهادةً دكتوراه، أو أمّ مسجداً أو ألف مؤلفاً أو وعظ فابكى أو حفظ من القرآن يُعد شيخ العلم ومفتي الأمة ومجتهداً في المسائل يتكلم فيحل أو يحرم بغير هدى ولا أهلية لذلك، أما علم هؤلاء أنّ الجرأة على الفتوى جرأة على النار، عياذًا بالله مما وصل به الحال فادعى الإجتهاد غير أهله وتمادى الجاهل وقال: هم رجال ونحن رجال ......